الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الدفع أو اللا أمن

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يختلف اثنان على أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رجل أعمال ناجح، يعرف كيف يكسب المال من أى اتجاه، وقد استطاع استثمار مواهبه فى جمع المال لخدمة بلاده، فمنذ أقل من شهرين استطاع أن يجبر بعض الدول الخليجية أن تدفع ثمن بقائها وثمن أمنها الذى ادعى أنه هو المحافظ الأول عليه، والآن يهدد حلفاءه الأوروبيين، يبتزهم فى أمنهم. يعرف أنهم يخافون من أنفسهم، كما يخافون من روسيا. تؤكد ذلك تجربة الحربين العالميتين، وتدخل واشنطن فيهما. يلعب هذه الورقة بإتقان، يحولها إلى دولارات: «ادفعوا أكثر كى نحافظ على أمنكم».
ففى يوليو الماضي، كاد ترامب أن يسبب أزمة كبيرة لحلف شمال الأطلسى الذى تقوده أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية؛ حيث طلب من كل دولة عضو المساهمة باثنين فى المئة من ناتجها القومى فى موازنته و«إلا» اتخذ إجراءات قاسية ضدها، منها خفض المساهمة الأمريكية. وقال للمشاركين فى المؤتمر إن «الولايات المتحدة تضطلع بحمايتكم وتخسر البلايين كل عام». بعد هذا التهديد زادت الدول الأعضاء مساهماتها بما يعادل ٢٦٦ مليون دولار سنويًا.
الآن يعود الرئيس الأمريكى إلى لعب الورقة ذاتها، لكنه هذه المرة سيضاعف الأعباء على الأوروبيين بإعلانه الحرب الباردة على روسيا، واتخاذه قرارًا بإلغاء الاتفاق النووى المبرم منذ العام ١٩٨٧ مع موسكو، ما يعنى نشر المزيد من الصواريخ الباليستية فى القارة، وإجبارها على العودة إلى سباق التسلح. والحجة أن الكرملين لم يلتزم الاتفاق ويهدد أمن الجميع.
ويبدو أن التنافس بين موسكو وواشنطن فى هذه الآونة أسوأ مما كان عليه فى ظل حقبة الحرب الباردة، فواشنطن تأخذ على موسكو اندفاعها فى إنتاج أسلحة نووية قصيرة المدى (٥٠٠ كيلومتر)، وإنشائها قواعد صواريخ كروز «النوفيتور»، وتعد ذلك انتهاكًا للاتفاقية بين الجانبين، وترد موسكو بأنها أكثر التزامًا بالاتفاقية من الطرف الأمريكى (ممثلًا بحلف شمال الأطلسى الناتو)، الذى يستعد لنشر قواعد صواريخ متوسطة المدى فى أوروبا. ولا تتوقف موسكو عند ذلك فهى تهدد باستهداف الدول الأوروبية، التى سوف تنصب فيها هذه القواعد. وفى هذه الأجواء، أعلنت واشنطن يوم ٢٢ أكتوبر المنصرم، عزمها الانسحاب من الاتفاقية، التى مضى على توقيعها نحو ثلاثة عقود، وتم إيفاد مستشار الأمن القومى الأمريكى جون بولتون إلى موسكو؛ لإبلاغ المسئولين الروس بهذا التوجه، وقد خيّم التوتر على أجواء الزيارة، التى التقى فيها بولتون الرئيس فلاديمير بوتين.
وفى هذه الأجواء، وصف آخر رئيس للاتحاد السوفييتى ميخائيل جورباتشوف، فى آخر إطلالاته النادرة، انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى بأنه أمر غير مقبول، وأن توقيع المعاهدة كان «انتصارًا عظيمًا». وقال الرجل إن «قرار الرئيس دونالد ترامب بالتخلى عن معاهدة الصواريخ النووية، التى أبرمتها واشنطن مع موسكو بمثابة الإعلان عن سباق جديد للتسلح النووي».
ومن التصريحات المثيرة وذات الأهمية فى هذا الشأن، ما صرّح به لوكاس كليسا، الخبير العسكرى لدى حلف الناتو، بأن انسحاب الوﻻيات المتحدة «فاجأ إدارة التحالف، التى لم تتوقع تلك الخطوة؛ بعد تعهد الوﻻيات المتحدة بالإبقاء على الاتفاقية النووية فى اجتماعها مع أعضاء الحلف فى يوليو الماضى». وأضاف قائلًا: إنه «لم يعد للحلف أى تصور حيال تحركات الوﻻيات المتحدة بعد الانسحاب».
يذكر هنا أن الوﻻيات المتحدة والاتحاد السوفيتى أزالا قواعدهما لصواريخ «كروز» من نطاق أوروبا منذ إبرام اتفاقية الصواريخ النووية؛ لكن أوروبا تعود مجددًا ميدانًا للتنافس والنزاع القطبي.
الدولتان العظميان تبحثان مستقبل أوروبا فى غياب الطرف الأوروبي، ورغم أنه لم تعد هناك أوروبا غربية، وأخرى شرقية، إلا أن القارة العجوز عادت كمركز للاستهداف الثنائى الروسى الأمريكي. وإذ باتت أوروبا فى مجملها وفى إطار الاتحاد القارى حليفة للولايات المتحدة، إلا أن واشنطن تتخذ قرارات متعلقة بأمن القارة، بصورة منفردة. وحتى القرارات داخل حلف الناتو باتت تتخذ بصورة منفردة من طرف واشنطن بعيدًا عن الحلفاء الأوروبيين (أو معظمهم)، ولا يزال الخلاف الأوروبى مع واشنطن حيال الاتفاق النووى بين الغرب وإيران، طريًا فى الأذهان.
والراجح فى ضوء ذلك، أن يسيطر هذا التطور على تفكير وأجندة المراكز الدولية النافذة فى عالمنا، فى ما تبقى من العام الجارى وخلال العام المقبل؛ إذ إن مسألة التفاهمات حول مديات التسلح، ونصب قواعد الصواريخ، ظلت تمثل ركنًا فى التفاهمات الدولية. وأن تتم إثارة التنافس النووى على هذا النحو ومصحوبًا بتهديدات متبادلة، فذلك يعد كسرًا للمحظور، وتجاوزًا لخطوط حمراء ظلت تضبط الإيقاع الدولى منذ زهاء ثلاثة عقود على الأقل.
ومن المفارقات أن موسكو ظلت تسعى خلال الأشهر القليلة الماضية للقاء قمة أمريكية روسية، لتطويق تفاعلات ما تعده دوائر قضائية أمريكية، تدخلات روسية فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فإذا بمسألة تزيد أهمية وخطورة تُثار فجأة، وتتعلق بمعاهدة تتعلق بنصب صواريخ، متوسطة وقصيرة المدى حاملة لرءوس نووية. وهو ما يضفى إثارة بالغة على القمة المزمعة فى نوفمبرالجارى بين الرئيسين ترامب وبوتين؛ وذلك بعد أن اتسعت شقة الخلاف بين الجانبين، وباتت تلامس هذه المرة مسائل شديدة الحساسية تتعلق بالأمن الاستراتيجى للدولتين العظميين كما لأمن أوروبا والعالم بأسره. 
جدير بالذكر أن الأمين العام للأطلسى يانيس شتولتنبيرج، استبعد موافقة كل الدول الأعضاء فى الحلف على نشر المزيد من الأسلحة النووية فى القارة ردًا على التحديات الروسية. وقال: «لا نريد خوض حرب باردة جديدة، ولا نريد سباقًا جديدًا للتسلح». لكنه يعرف تمامًا أن هذه الدول شاركت منذ تسعينيات القرن الماضى بمحاصرة روسيا من شرقها الأوروبي، ومن القوقاز وآسيا الوسطى، وسيطرت على البحار والمحيطات وطرق التجارة، وأن رد موسكو المتأخر بدأت مفاعيله فى التبلور من خلال استرجاعها القرم ومحاصرة أوكرانيا، والانطلاق إلى المياه الدافئة عبر إيران وسوريا، ما يعنى أن الحرب الباردة أصبحت واقعًا لن يتم إيقافها بقرار من هذه الدولة أو تلك. ويعرف أن بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وهى الدول الأكثر فاعلية فى الأطلسى، ستمانع فى البداية لكنها لن تخالف البيت الأبيض، فقال إن «معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى لن يكون لها تأثير ما لم يتم احترامها». وأضاف أن «الولايات المتحدة تحترم التزاماتها ولكن روسيا تنتهكها»، تاركًا المجال لمزيد من المفاوضات مع واشنطن. وأعلن إطلاق أكبر مناورات عسكرية فى النرويج منذ انتهاء الحرب الباردة فى «رسالة واضحة موجهة إلى جميع المعتدين».
إن تحدى ترامب القارة القديمة وإكراهها على اتخاذ قرارات فى غير مصلحتها ليس جديدًا، فهو يسعى إلى تفكيك الاتحاد الأوروبى، ولا يخفى ذلك لأن قوة الاتحاد الاقتصادية تسهم فى استقلالية قراره، ويقف ضد بناء قوة عسكرية أوروبية كى تبقى القارة مرتهنة للحلف الأطلسى وسياسات واشنطن، وسندًا لها فى أى قرار تتخذه.
الواقع أن هذه السياسة لم تبدأ مع ترامب، بل هى استراتيجية أمريكية ثابتة عبر العهود المختلفة، لكن للرئيس الخامس والأربعين تكتيكه الخاص وأسلوبه فى التعاطى مع الحلفاء.
خوف أوروبا من نفسها يشبه خوف العرب من أنفسهم... وأمريكا المنقذ الدائم.