صار زمن الممارسة التقليدية لكلٍ من السياسة والإعلام بعيدًا عن واقعٍ جديد وُضعت قواعدُه وحُددت ملامحُه ورُسمت مساراتُه، واقعٍ جديد جعل العلاقة بين صانعى القرار والإعلاميين علاقة متداخلة ومتشابكة ومعقدة، فالسياسة لم تعد تدور كما كانت فى الغُرف المغلقة التى لا يتسرب منها إلا ما يأذن به السياسيون، وفى التوقيت الذى يحددونه، وبالكيفية التى يتم اعتمادها. وفى الوقت ذاته، غادر الإعلاميون مقاعد المشاهدين، ولم يعد دورهم مكتفيًا برصد ظاهر الشخصيات والأحداث، وتمرير ما يصلهم إلى الجمهور القانع بما يقدمونه إليه. لقد تغيرت كل مُعطيات المعادلة، فلم يعد السياسيون يملكون رفاهية سرية الحركة، والوقت الكافى، والسيطرة الكاملة على تفاصيل الأداء، وسار الإعلاميون إلى مدى أبعد وأعمق فى تقصى الحقائق وتحليلها، واختبار مصداقيتها، واستباق القادم، بل المشاركة فى صناعة الأحداث وصياغتها، وكبح جماح القوة الهادرة، مستعينين فى ذلك بجمهورٍ لا يسمح لهم بغير ذلك حتى لو أرادوا، فقد زاد وعيُه، وأدرك حدودَ حقه فى أن يعرف، وأن يحكم، وأن يشارك فى تقرير ما يدور وما سيتم.
فى هذا الإطار صدر مؤخرًا عن «عالم الكُتب» كتابٌ غاية فى الأهمية للأستاذ الدكتور السيد بهنسى أستاذ الإعلام بكلية الآداب جامعة عين شمس بعنوان «صراع المعايير بين صانعى القرار والإعلاميين». وتتمثل
أهمية هذا الكتاب فى أنه جاء كمخاضٍ لصَخَبٍ هائل لتفاعل المتغيرات الجديدة لكل الأطراف؛ حيث يمارس صانعو القرار والإعلاميون ضغوطًا متبادلة ليقوم كل منهما بتسيير معادلة الصراع وفقًا لمعاييره ومفرداته ومحاذيره والتزاماته، وتبلغ هذه الضغوط حدها الأقصى حين تبلغ الأحداث أيضًا مداها فى الأهمية لدى الجماهير التى تتوق لتحيا عصرًا جديدًا يتنافس فيه الجميع على تلبية حقها فى معرفة وصلت ذروةً لم تشهدها من قبل، وتتوق كذلك لمتابعة صراعٍ مثير بين طرفيْن يدركان أنه برغم كل الاختلافات فإن حتميةَ كلٍ منهما للآخر اكتمالُ واقعٍ وضرورةُ حياة.
إن التطور المتصاعد الذى شهده المجالان السياسى والإعلامى فى العقود الأخيرة جعل لكلٍ منهما رؤيته وأهدافه ومعاييره الخاصة فى الأداء، والتى تراوحُ مكانها بين التلاقى والاختلاف والتباعد، إنها معايير تحكمها المتغيراتُ العديدة لكلٍ من المجاليْن، والأحداث التى يتم مواجهتها، والأطراف المتصارعة والمتنافسة والمتحالفة، إنهما مجالان شديدا التغير والحيوية والتجدد، لا معادلاتٍ ثابتة فيهما ولا قواعدَ صُلبة يمكن إعادة استدعائها لإعادة تطبيقها دون تعديل أو ضبط أو ترشيد، إنها خصوصيةُ التفاصيل التى لا تجعل أى حدثيْن متماثليْن فى كل شىء، بل لا بد من إدراكٍ واعٍ لتفرد الحالة واختلاف توقيتها وأداء أطرافها.
وقد قسّم المؤلف كتابه إلى ثمانية فصول صدرت فى 350 صفحة من القطع الكبير، وطرح فى هذه الفصول الثمانية قضايا مهمة تؤشرُ لمختلف أبعاد العلاقة والصراع بين صانعى القرار والإعلاميين، ومن بين هذه القضايا ضرورة الإجابة عن سؤالٍ مُلح، وهو: مَن يضعُ الأجندةَ والأولويات؟، حيث قدم الكتابُ رؤى مختلفة ومتباينة، منها حدود اليد العليا لصانعى القرار السياسى فى وضع أجندة الأولويات، وحدود قدرة وسائل الإعلام على وضع الأجندة، والعوامل المتداخلة فى وضع الأجندة بين بين دائرتيْ صانعى القرار والإعلاميين، كما عرضَ الكتابُ للضغوط المتبادلة فى هذه السبيل منها كيفية التعامل مع «التسريبات» فى ضوء التصارع بين اعتبارات الأمن القومى وحرية النشر، ووسائل الإعلام بين الموضوعية المهنية وضغوط السلطة، والضغوط الإعلامية والأعصاب السياسية المرهقة، وهل يُعتبرُ استبعادُ الإعلاميين وتهميشهُم إساءةَ تقدير أم تجاوزًا مُتعمدًا للمعايير.
ويتناولُ المؤلفُ المواقفَ التى يُسيء فيها صانعو القرار التعامل مع وسائل الإعلام، ومن ذلك إغفال وجود رؤية إعلامية لدى صانعى القرار، وعدم أخذ المتغيرات الإعلامية فى الاعتبار، وتجاهل ما تقدمُه وسائلُ الإعلام من معلومات، ومعاداة صانعى القرار لوسائل الإعلام. ويقدمُ الكتابُ رؤيةً مميزة فى أساليب عرقلة وسائل الإعلام لأداء صانعى القرار السياسى، وذلك حين تسمح للخصوم بالوجود فى ساحتها، واصطياد الأخطاء وتضخيمها وتحويلها إلى خطايا لا تُغتفر فى الضمير الجمعى، وهو ما يؤدى إلى تراكم تُراث السَخَطِ السياسى لدى جماهير الشعب، وعندما تتجاهل وسائل الإعلام دورها فى مكاشفة صانعى القرار السياسى بما ينبغى أن يكون.
ولم يُغفلُ الكتابُ الدائرةَ الخاصة والعلاقة الشائكة بين صانعى القرار والإعلاميين، من حيث الصراع المحتدم بين الخصوصية من جهة، والملاحقة الإعلامية التى لا تنتهِ من جهةٍ أخرى، والعلاقة الإنسانية بين صانعى القرار والإعلاميين، ومدى تصارعها وتعارضها مع التزامات المهنية الإعلامية.
وقد استعرضَ الكتابُ آلياتِ صانعى القرار السياسى فى التعامل مع الإعلاميين ومنها آليات الأبواب المغلقة، والهروب إلى الأمام، والامتناع المؤقت عن الحديث، وتحييد المعانى المتصارعة، وتفادى الضغوط الإعلامية، والدق المنتظم، والمشكلة هى الحل، والاعتراف، ورسائل البديل الآخر، وكسر الحواجز، والتحكم فى تدفق الأخبار، وتقديم الأدلة، والتعبيرات الملهمة، والانتقاء، والرسائل الاستثنائية، والرسائل المتناقضة، وإزاحة الأحداث، والصمت، والتسريب، واستغلال سوء الإدراك.
كما استعرضَ الكتابُ على الجهةِ الأخرى آلياتِ الإعلاميين فى التعامل مع صانعى القرار ومنها آليات اقتسام المكاسب، تحديد الإطار (التأطير)، تقديم الأدلة العكسية، والتجاهل المتعمد، وتكثيف المعانى، وحامل الرسائل، والمساندة، والتلاعب الإعلامى، وتجاوز المتعارف عليه، والتحريف، وكشف الأكاذيب، والمتابعة الضاغطة، واستنزاف المكانة، والرواية المكملة، والمشاركة فى التضليل، واستثارة المناخ السياسى، والاستدراج، والتواطؤ لإثارة المخاوف.
وإذا كانت الأحداثُ والأزماتُ الكُبرى تمثل رصيدًا ثريًا لدراسة صراع المعايير بين صانعى القرار والإعلاميين، وإذا كان من الأهميةِ بمكان ألا يُنظر إليها باعتبارها جزءًا من تاريخ مضى، وإنما دليل وذاكرة واعية لمستقبلٍ وأحداثٍ قادمة، فإن تأمُل كيف دارَ الصراع، وكيف تقاربت المعايير أو تباعدت يمثل وقفةً فارقة لا غِنى عنها إذا أردنا أن نعلمَ كيف حدثَ ما حدث، وكيف نواجهُ القادمَ حينَ يأتى.
إن هذا الكتاب ينتزعُ ورقةَ التوت التى تُغلف الصراعَ بين السياسيين والإعلاميين، ذلك الصراع الذى يظهر هادرًا حينًا ويبدو مكتومًا أحيانًا، ولا غنى عنه لكل من أراد أن تكون بضاعته السياسة أو الإعلام.