رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

آليات ممارسة العنف الرمزي «3».. «التليفزيون»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما الدور الذى تقوم به وسائل الإعلام الحديثة خاصة «التليفزيون» فى تشكيل الوعى والرأى العام؟ كيف تعمل هذه الآليات؟ ومن يقوم بالتحكم فيها وإدارتها؟ هل هم الصحفيون الذين يعملون فى هذه الأجهزة أم أنه «النظام» الذى يعملون فى إطاره؟ أى قيم وأفكار ثقافية تُروج لها هذه الأجهزة؟ وعن أى مصالح اقتصادية واجتماعية تعبر هذه الأجهزة والأدوات الإعلامية؟ 
كرس «بورديو» اهتمامًا كبيرًا لنقد الدور الذى تلعبه وسائل الإعلام والميديا الجديدة فى فرنسا، وشن نقدًا حادًا لهذه الوسائل من صحافة وإذاعة، وبشكل خاص «التليفزيون» لأنه يلعب دورًا بالغ الخطورة فى تكريس الأوضاع والمصالح السائدة، وفى التفريغ السياسى والتلاعب بعقول المستهلكين من المشاهدين؛ لذلك حاول «بورديو» أن يحلل بنية شاشة «التليفزيون» وتأثيراتها، وما تنتجه من برامج وصور بعيدة عن أى موضوعية وتعكس رؤية للعالم غير محايدة سياسيًا. 
ويُعد كتاب «التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول» والذى صدر باللغة الفرنسية عام ١٩٩٦م تحت عنوان: «حول التليفزيون» من أهم ما كتب فى مجال نقد وظيفة «التليفزيون» من زاوية الأدوار الرمزية التى يتخذها بوصفها أداة لتحليل مضمون الخطاب. وتكمن أهمية هذا الكتاب، بجانب الموضوع المباشر الذى يتناوله وهو بنية وسائل الإعلام الحديثة وآليات عملها، إلى أنه يفتح الطريق – بشكل غير مباشر – للتأمل والتفكير فيما هو أبعد من ذلك وتحديدًا طبيعة المجتمع الذى نعيش فيه فى الوقت الراهن.
والأمثلة على ذلك كثيرة منها: دور القنوات الفضائية العابرة للحدود الجغرافية فيما يتعلق بالأحداث التى تشهدها المنطقة العربية فى فلسطين والعراق وسوريا. 
إن القنوات التليفزيونية - خاصَة الفضائية منها – لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية أو للتثقيف، وإنما أصبحت أدوات للضبط والتحكم السياسى والاجتماعى فى المجتمعات الراهنة، بمعنى أنها أصبحت – وفقًا للمصطلح الذى يستخدمه «بورديو» – عبارة عن أدوات لـ«العنف الرمزي» الذى تمارسه الطبقات الاجتماعية التى تهيمن على هذه الأدوات وتُسيرها. و»التليفزيون» يمارس هذا «العنف الرمزي» حيث إنه لا ينقل الحدث بقدر صناعته له وقولبته، وإسباغ الصورة التى يريدها على ذلك الحدث، مبتعدًا عن مفهوم الوسيط الإعلامى بين «الخبر» و»الجمهور»، متماشيًا مع فكرة «صناعة الحدث» وتقديمه للجمهور.
لقد وجد «بورديو» فى عالم «التليفزيون» فضاءً يميز فيه بين فاعلين مهيمنين من قبل منتجى البرامج على طبقة أخرى، مما ينزع عنهم الوعى النقدى ويقتل فيهم روح الإبداع، حيث أصبحت الشاشة تقدم فكرًا جاهزًا أو غذاءً ثقافيًا سريعًا، بمعنى نوع من التغذية الثقافية المُعدَّة سابقًا؛ التى تم التفكير فيها سلفًا. وعلى هذا الأساس، «فالتليفزيون» لا يقتصر على المشاهدين بل شمل ذلك – أيضًا- المثقفين الذين يخضعون لشروطه، مما أنتج نوعًا من المثقفين يسميهم «بورديو» «مفكرين على السريع». لقد امتلكت الشاشة سلطة رمزية مارستها على التفكير، تتمتع هذه السلطة بالقدرة على امتلاك الحدث – كما ذكرنا من قبل – بدلًا من تكوين العقول. ومن بين الآليات التى يلجأ إليها المشرفون على «التليفزيون» للتأثير فى الواقع والسيطرة على الرأى العام، حَجْبُ المعلومات عن طريق عرضها بشكل مختلف أو عرضها بطريقة تقلل من أهميتها، وذلك من خلال خلق الإثارة والمبالغة فى وصف الأحداث. 
وإذا طبقنا رؤية «بورديو» هذه على واقعنا العربى المعاصر، سنجد أن الإعلام لعب دورًا خطيرًا فى التقلبات السياسية التى شهدتها المنطقة العربية ولا تزال، وربما كانت منظومات التواصل– خاصة «التليفزيون» – أكثر تأثيرًا فى صناعة الرأى العام وتغيير المزاج الجماهيرى وقولبته على النحو الذى يسعى إليه مستخدمو هذا الجهاز، أو بصورة أدق، المسيطرون عليه ومالكوه. لقد كانت الحملات المنظمة للإطاحة بالأوضاع الناشئة إثر التحولات السياسية الجزئية فى بعض الدول العربية، تعتمد على القنوات التليفزيونية أداة لتزييف الوعى وقولبة العقول. فهناك نسبة كبيرة من الأفراد وهبوا أنفسهم للتليفزيون بوصفه المصدر الوحيد والأوحد للمعلومات، فأصبحوا هم الهدف الرئيسى لعملية إعادة تشكيل الوعي، وبمعنى أدق خضعوا لعملية «عنف رمزي» غير واعين بممارسة هذا العنف أو الخضوع له.