لم يسيروا على دربه، ولم يستنّوا بسنّته، ولم يأخذوا بوصاياه، ادّعوا أنه زعيمهم ولم يتحلّوا بأخلاقه، وردّدوا أنه قدوتهم ولم يقلّدوا أفعاله، وزعموا أنه معلمهم لكنهم لم يقدّموا إلا جهلا وظلما وسوء ظن.
كان هذا حال رسولنا الكريم مع المتأسلمين الذين يتاجرون به ليل نهار، ويستغلونه في كل قرار، ويرددون أن صراعاتهم الدنيوية وحروبهم المادية وعدوانهم على الآخرين تأتي جميعها دفاعا عن الإسلام وحضارته ومشروعه ونظامه، كدأب من سبقوهم من خوارج وغلاة وحشاشين وتكفيريين، حشدوا الناس باسم نبي الإسلام إلى معاركهم الشخصية، وطموحاتهم الذاتية، ومصالحهم الضيقة.
لو أطلق الأعداء رصاصهم على الإسلام ما أضروه مثلما أضره المتأسلمون التجار، لو أنفقوا ما في الأرض جميعا ليشوّهوه ما فعلوا نصف ما فعل دعاة الإسلام السياسي، كان الرسول عفوّاً متسامحا، لكنهم قتلة يصدرون أحكام الموت على خصومهم ومخالفيهم في الرأي، وكان النبي ليِّناً لكنهم أفظاظ غلاظ القلب فضّوا الناس من حولهم، وفضّوا غير المسلمين عن الإسلام. وكان محمد أحسن الناس أخلاقا، لا يسبّ ولا يفحش القول ولا يغضب لنفسه، بينما أطل علينا جهلاء التأسلم يسبّون الناس ويخوضون في الأعراض ويقذفون النساء بالغيب.
ما خُيّر سيدنا محمد بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وما سئل شيئا وقال "لا"، كان معلم البشرية عليه الصلاة والسلام يدفع السيئة بالحسنة، ويرد الظلم بالإحسان، ويقاوم الأذى بالصبر، ويواجه الجهل باللين والحوار والإقناع، فقد دسّت له إمرأة يهودية سمّاً فعفا عنها، ورماه أهل الطائف بالحجارة فدعا الله لهم بالهداية، وتقوّل المنافقون على عرضه فتسامح، وطرده أهل مدينته وتآمروا على قتله فلمّا تمكّن منهم أطلق سراحهم.
في تجربتنا مع الحكم المتأسلم لبس الجهل أردية أهل الدين، وحلّت الخرافات محلّ المعجزات، وتحوّل قادة الجماعات المتأسلمة إلى أرباب وآلهة تعبد من دون الله، ما يقولونه لا يراجع، وما يقرّرونه لا ينتقد، وما يأمرون به لا يجوز عصيانه حتى لو كان الخسران هو نتاج ذلك، ما عرفوا أن محمدا ــ وهو النبي العظيم وهم مجرد بشر خطائين ــ كان يستشير أصحابه، وكان يستمع إلى الجميع ويقبل آراء البسطاء، ويستعين بغير المسلمين في قضاء حوائج الناس.
ما علموا أن محمدا لم يطلب لنفسه مالا ولا جاها، وإنما سعى إلى العدل بين الناس وتحريرهم، وإتمام مكارم الأخلاق بينهم، ما تعلّموا الدرس منه، ولم يتجاوز كلامه ألسنتهم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تعودوا من بعدي كُفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقال أيضا: "إن دماءكم عليكم حرام كحرمة بلدكم هذا"، "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، "أقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا".
ما زال عندي أمل في بعضهم، أتمنّى على جماعات الإسلام السياسي أن تتوب إلى الله وتتبرّأ من العنف، وأن تستعيد دروس أستاذ البشرية، وتخلع مصالحها وشيوخها ومخادعيها، وأن ترجع إلى حضن مصر.