تُرينا الكتابة ما يغيب عن أعيننا المجردة فى مختلف الجهات، علوًا
وانخفاضًا، شمالاً وجنوبًا، على سطوح الأشياء وفى أعماقها. كائنات تولد وتحيا
وتموت فى الجهات كلها، ثمة أناس فى العلو البعيد وفى القيعان السحيقة، على السطوح
يعيشون مثل ديدان صغيرة، وفى الأعماق المبهمة. تعيننا الكتابة على رؤيتهم
والاستماع إلى أصواتهم، تمنحنا الفرصة لمشاركتهم روعة لحظاتهم وهم ينظرون إلينا.
الكتابة ناظور، مرهف وجديد فى كل عصر.
إن عطايا الإبداع ممتدة وبلا حدود وليس المقطع السابق الذى جاء في كتاب لؤى حمزة عباس «الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق» هو الوحيد فى الثناء على
الكتابة ومديحها لكن ما الذى يدفع كاتبا ما ليجلس إلى طاولته ويملأ رزمة من
الأوراق بمداد عرقه ودمه؟ هل هو البحث عن وجاهة والسعى المحموم للانتقال من شريحة
اجتماعية متدنية إلى أخرى أكثر تقديرًا واحترامًا فى مجتمع ما، أم الرغبة فى تحقيق
شهرة أو مكسب مادي؟ أم يكمن الدافع فى عدم القدرة على الفكاك من أسر الفن حتى لو
عاش الكاتب مذمومًا، بائسًا وفقيرًا؟
ما الدافع وراء الكتابة.. ولماذا يكتب هؤلاء الكتاب؟ للإجابة عن هذا
السؤال كان يلزمنا أن نعود إلى بعض الكُتاب الذين لاقت أعمالهم استحسان الجمهور
والنقاد ليس فى بلدانهم وحسب ولكن حققت رواجًا خارج حدودهم أيضًا.
تقول تيرى تيمبست وليمز صاحبة «الطبيعة اللطيفة»: أكتب لكى أتصالح مع
الأشياء التى لا أستطيع السيطرة عليها. أكتب لكى أصنع نسيجًا فى عالم يظهر غالبًا
بالأبيض والأسود. أكتب لأُكتُشف، أكتب لأكتشِف. أكتب لكى أواجه أشباحي. أكتب لكى
أبدأ حوارا. أكتب لكى أتخيل الأشياء على نحو مختلف، وبتخيل الأشياء بشكل مختلف..
ربما يمكن للعالم أن يتغير.
أما والتر موزلى فإنه لا يستطيع التفكير فى سبب يمنعه من الكتابة.
حتى لو لم يشتر أحدهم كتابا واحدا من كتبه فإن هذا السبب أيضا ليس بوسعه أن يمنعه
من الكتابة.. إنه سيكتب بأية حال.
تقول سو جرافتون إنها تكتب لأن هذا هو كل ما تتقن فعله، وأن الكتابة
فى حد ذاتها هى مرساتها وغايتها، وتعتبر أن حياتها تتثقف بالكتابة، سواء كان العمل
يسير بشكل جيد، أو كانت عالقة فى جحيم حبسة الكاتبة.
إن ما يعرف بحبسة الكاتب شبح مخيف يزاول غالبية الكتاب تقريبا لكن هناك
من استطاع التعامل معه وتفادى ظلاله الكريهة. تعتبر سو جرافتون أن حبسة الكاتب تقع
نتيجة قرار خاطئ قامت باتخاذه وأن مهمتها هى العودة للوراء لرؤية ما إذا كانت
قادرة على تحديد مفترق الطرق حيث مضت نحو الاتجاه الخاطئ. إذ أحيانا تخطيء فى فهم
شخصية أو دوافعها. أو أنها تسلسل الأحداث بطريقة تجعل مسار القصة موحلا. عندئذ
تعاود إدراجها فصلا أو فصلين ويُصححُ الخطأ بسهولة.
إن عدم الكتابة مؤلم لنفس الكاتب بشكل لا يمكن وصفه وفى بعض الأحيان
يدفعه للاكتئاب أو الجنون لأنه لا يعرف شيئًا فى العالم سوى هذه الغواية. وعن هذا تقول
كاثرين هاريسون: أكتب لأن هذا هو الشيء الوحيد الذى أعرفه، والذى يمنحنى الأمل
بكونى جديرة بالمحبة. الأمر يتعلق ـ كلية ـ بعلاقتى مع أمي. لقد قضيت طفولتى فى
محاولة لإعادة صنع نفسى كى أصبح الفتاة التى تستحق حبها، وقد ترجمتُ ذلك ـ بدون
قصد ـ إلى عملية الكتابة. وكما أننى كنت أتطلع دائما إلى ما وراء تجسدى الحالي،
إلى التجسد الذى سيسترعى انتباه أمي، فأنا أتطلع دائما إلى الكتاب الذى لم يأت
بعد، الكتاب الذى سيكشف عن جدارتى بالمحبة.
هناك رأى آخر لجيش جين: الكتابة هى جزء جوهرى من وجودى فى هذا
العالم. فالأكل والنوم والكتابة، أمور تسير جنبًا إلى جنب. إننى لا أفكر لماذا
أكتب أكثر مما أفكر لماذا أتنفس. غياب الكتابة أمر سيء تماما كما هو عدم التنفس.
عندما أكتب فأنا غير مدركة لذاتي، أجدنى فى شخصياتي، فى القصة. أعرف بأن الكتابة
تسير على ما يرام حين أنظر إلى ساعتى لأجدها تشير إلى العاشرة مساء، مع أن آخر مرة
نظرت فيها إليها كانت فى فترة الظهيرة.
إن عملية الكتابة تحتاج إلى جهد نفسى وعقلى غير محدودين لكن أيضا لا كتابة بدون قراءة والتى بدورها تحتاج إلى جهد حثيث وكما يقول لؤى حمزة عباس: إن الرجل الذى لم يُصادف أن رأى حلما فى حياته، يواصل أيامه بتصفح كتب تفسير الأحلام. كُتب فى كل مكان: فى المطبخ، وغرفة النوم، وعلى الرف الزجاجي، بجانب ماكينة الحلاقة، في زاوية الحمام. كان يعيش أحلامه، عادة، فى النهار، مع أول كتاب يفتحه. وأول كلمة تقع عليه عيناه. أن تقرأ عن الحلم لا يعني، أبدًا أن تحلم، ذلك ما تعلمه من أعوامه مع الكتب.