صبيحة الأحد الماضى، بدأ «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» فى تلقى طلبات ترخيص الوسائل الإعلامية من صحف وقنوات ومواقع إلكترونية، بمقر المجلس بماسبيرو، تنفيذًا لقانون ١٨٠ لسنة ٢٠١٨ الذى منح المجلس حق منح التراخيص للوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية وتقنين أوضاعها. وقام المجلس بإعداد نموذج للمتقدمين للترخيص يحتوى على عدة بنود أبرزها اســم مـالك الوسيلة الإعلامية، محل إقامة المالك، الغـرض من الوسيلة الإعلامية، الفئة المستهدفة، السـيـاسـة التـحريـريـة، اسم رئيس مجلس الإدارة، أعـضـاء مجلس الإدارة وغيرها من البنود التى يتضمنها نموذج المجلس.
ومن بين شروط مالكى الوسيلة الإعلامية أو المواقع الإلكترونية، أن يكونوا مصريين، سواء كانوا أشخاصًا طبيعيين أو اعتباريين، غير محرومين من مباشرة حقوقهم السياسية، ليس ضدهم أحكام جنائية أو جنح مخلة بالشرف أو الأمانة. ومن بين الشروط الواجب الالتزام بها كذلك عدم تملك المساهمين غير المصريين نسبة غالبة من الأسهم أو نسبة تخول لهم حق الإدارة، فمن شروط مدير الوسيلة الإعلامية أن يكون مصريًا، مسئولًا عن المحتوى، مقيدًا فى جدول نقابة الإعلاميين أو الصحفيين، وعلى الشركة ألا تمتلك أكثر من ٧ قنوات تليفزيونية، ولا تشتمل على أكثر من قناة عامة وإخبارية.
وقد قمتُ بالتعليق على هذه الشروط والضوابط عقب صدورها وبدء تطبيقها يوميْ الأحد والإثنين الماضييْن بصحيفة «البوابة» وموقعها الإلكترونى فى لقاء تليفونى مع الصحفية النشيطة خلود ماهر وقناة «دى إم سي» من خلال فقرة كاملة استضافنى فيها برنامج «اليوم» الذى يقدمه الإعلامى عمرو خليل والإعلامية سارة حازم للتعليق على هذه الشروط الخاصة بتراخيص الوسائل الإعلامية بشكلٍ عام والمواقع الإخبارية بشكلٍ خاص.
قلتُ إن خطوة منح «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» حق إصدار التراخيص للمواقع الإلكترونية وتقنين أوضاعها، كان ضروريًا بسبب ما حدث من انفلات إعلامى بعد ثورة يناير ٢٠١١، والذى جاء انعكاسًا لانفلاتات عديدة حدثت فى مختلف المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وهى انفلاتات كان مخططًا لها ونتجت عن أفعالٍ مدبرة ومقصودة بغرض إسقاط الدولة المصرية فى براثن الفوضى والتوحش الذى تجيد إدارته الجماعات الإرهابية المتطرفة.
وقد أدت هذه الفوضى العارمة إلى وجود انفلات أمنى ووصول شخصٍ هارب من سجن وادى النطرون إلى رئاسة الجمهورية كرئيس للبلاد، ووصول جماعة محظورة إلى سلطة الحكم فى مصر سواء فى مجلسيْ الشورى والشعب، وأدت هذه الفوضى إلى الانفلات الاقتصادى «طوابير الخبز والبوتوجاز والزيت والسكر» وغيرها، ما أدى بالتبعية إلى انفلات إعلامي؛ حيث إن الإعلام يعكس صورة المجتمع الذى نعيش فيه، وتجسد هذا الانفلات الإعلامى فى قيام بعض الوسائل بالترويج إلى فكرة الجماعة بغرض استقطاب المواطنين لتأييدها.
إن الوسائل الإعلامية فى أيام الانفلات كانت تقوم بعمل دعاية سياسية وانتخابية للجماعة الإرهابية فى البرلمان والرئاسة، وقد تم توظيف ما حدث فى ٢٥ يناير فى إصدار وسائل إعلامية أخرى دون ترخيص، حيث كان المجلس الأعلى للصحافة مسئولًا عن منح التراخيص للصحف المصرية، ولكن بعد حرق مبنى المجلس أصبح كل من يريد إصدار صحيفة يصدرها فى الحال دون أى ترخيص أو تقنين لأوضاعها، مما جعل هناك فوضى غير مسبوقة فى الإصدارات الصحفية بشكل «سرطاني» مهول، كما أدى هذا إلى تدشين عشرات المواقع الإخبارية دون ضابط أو رابط. وأصبحت توجد قنوات فضائية أجنبية فى مصر مثل «الجزيرة القطرية» وقناتها داخل مصر «قناة الجزيرة مباشر مصر»، مما جعل البلاد مخترقة من جميع الاتجاهات، فضلًا عن الميليشيات الإلكترونية لجماعة «الإخوان» على مواقع التواصل الاجتماعي. والأدهى من ذلك، أن بعض المواقع الإلكترونية تبث الشائعات وتستهدف الرموز الوطنية والسياسية وتستهدف إفشال الدولة، وبالتالى كان من الضرورى تقنين أوضاع المواقع الإلكترونية الإخبارية لحجب المخالفين والمغرضين وترخيص المواقع المنضبطة مهنيًا وإعلاميًا.
وحاولت مصر ضبط هذه الأوضاع بشكلٍ نسبى بعد صدور الدستور الحالى من خلال تشكيل الهيئات الإعلامية الثلاث التى ينص عليها الدستور، ولكن اليوم يتم تشكيل واقعٍ إعلامى جديد له مرجعية تشريعية تمنح «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» من خلال القانون رقم ١٨٠ لسنة ٢٠١٨ حق منح التراخيص للصحف الورقية والمواقع الإلكترونية والقنوات التليفزيونية، وإن كانت حاصلة على الترخيص من قبل ولكن الأمر الجديد إعادة النظر فى الوسائل الإعلامية التى تعمل بالفعل داخل مصر وإعادة تقييمها، ومن هنا، فإن خطوة تقنين المواقع الإلكترونية وتوفيق أوضاع القنوات الفضائية تُعد خطوة إيجابية وغاية فى الأهمية تطبيقا لقانون تنظيم الصحافة والإعلام، لضبط الأداء الإعلامي، لأنها تمثل «كوابح» أو «فرامل» للانفلات الإعلامى الذى ضرب المشهد الإعلامى المصرى عقب ٢٥ يناير ٢٠١١، وما زلنا نعيش آثاره السلبية حتى وقتنا هذا.
وأكدتُ أن هناك أكثر من أمر مهم جدًا فى موضوع منح التراخيص للوسائل الإعلامية، أولها من الناحية التنظيمية وفقًا لنص القانون أن يكون المالك مصريًا وهذا أمرٌ مهم، والتدقيق فى مصادر تمويل الوسيلة الإعلامية، وأن تقدم الوسيلة الإعلامية سياستها التحريرية أو الإعلامية التى تنتهجها مكتوبة حتى يكون لها دستور ومرجعية يمكن محاسبتها عليهما إن حادت عن جادة الصواب أو وقعت فى تجاوزات تخالف هذه السياسة، ويمكن فى هذه الحالة التحقيق معها وتوجيه الإنذار لها تلو الآخر، وإذا لم تلتزم يمكن إيقافها ومنع تجديد ترخيصها أو سحب ترخيصها، أما الأمر الثالث هو أن ضوابط الترخيص ستمنع الاحتكار الإعلامى من خلال منع المالك من امتلاك أكثر من ٧ قنوات تليفزيونية، من بينها قناة إخبارية وقناة فضائية عامة والباقى فضائيات متخصصة، مما سيجعل هناك تنوعًا وتعددًا فى المحتوى الإعلامى المقدم للجمهور، ويقضى على الاحتكار فى المشهد الإعلامي.
ولكن هناك من الأمور التى لم أذكرها فى التعقيب على شروط ترخيص الوسائل الإعلامية، منها مثلًا الضوابط والعقوبات المتدرجة التى يمكن اتخاذها ضد الوسيلة الإعلامية فى حالة مخالفتها شروط الترخيص، ومنها كذلك ما يتعلق بأسلوب التعامل مع المواقع الإخبارية والقنوات الفضائية التى تنطق باللغة العربية وتستهدف المنطقة العربية عمومًا ومصر خصوصًا، والتى تحيد عن القيم المهنية فى التغطية الإعلامية للشأن المصري، ومنها كذلك آليات التعامل مع الصفحات والحسابات التى يزيد عدد متابعيها عن ٥٠٠٠ متابع وربما عشرات أضعاف هذا الرقم فى بعض الحالات وتمثل تأثيرًا إعلاميًا أكبر من بعض الوسائل الإعلامية.
إن القضايا ما زالت كثيرة، ولا يزالُ الطريق طويلًا، ولكن أن نبدأ بخطوة تعقبها خطوات خيرٌ من ألا نبدأ على الإطلاق فى كبح جماح الانفلات الإعلامى الذى فاق كل الحدود.