تساؤلات عديدة يطرحها عقلي باستمرار، حتى شكلت
بداخلي، هاجسًا لا يتركني ليلًا ونهارًا، فمنذ توجهي، وتصوير جريمة مقتل طفلة بعد
اختطافها واغتصابها، على يد ذئبين بشريين، بالقرب من منزلهما بشبرا الخيمة في
القليوبية، ومشاهدتي الأم والأب والشقيقة، إذ أخفيا في عيونهما الدموع، على
ابنتيهما الطفلة «رحمة»، صاحبة الـ12 ربيعًا، وصرخات الأم المتقطعة وكلماتها ذات
السكين الحاد الذي يقطع في قلب كل من يسمع، لدرجة أنني أصبحت لا أنام ليلًا
ونهارًا.
التفكير والإحساس المؤلم الذي أعيشه ليلًا
ونهارًا، حزنًا على مصير رحمة وأسرتها، هو نفس الشعور الذي راودني خلال، وبعد
تغطيتي جريمة مقتل «أسماء» طالبة الأزهر «حافظة القرآن»، داخل شقتها، على يد لص،
كان هدفه السرقة، فأزهق روحها مستغلًا وجودها بمفردها داخل الشقة أثناء مرضها
ونومها داخل الشقة، ليكتم أنفاسها دون رحمة، برغم مقاومتها، ورفضها الموت على
يديه، ولكن ضعف جسدها ومرضها أسرعا في موتها.
هل هناك قلوب متحجرة لدرجة تسمح لمجرم أن يختطف
طفلة ويغتصبها ويقتلها من أجل «الفلوس»؟ هناك قلوب متحجرة تسمح لصاحبها أن يشنق
طالبة مسكينة داخل شقتها من أجل «الفلوس»، هل هناك «بنى آدمين بتلك
القسوة؟»، ألم يفكر هذا الإنسان في مصير أم مسكينة، وأب مكلوم، وأشقاء ضرب الحزن
كيانهم؟ ألم يفكر ويسأل نفسه «إزاي هتتهنى تلك الأسر» بـ«لقمة عيش»، مرة أخرى؟ لماذا لم يسأل نفسه «إيه اللي يستاهل إن أم وأب تموت الضحكة بداخلهم؛ بسبب ذلك
الفعل الإجرامي الخسيس؟».
«رحمة» يا سادة، لا تختلف كثيرًا عن «أسماء»، فالاثنان
قتلاني داخليًا، وجعلاني أشعر بقسوة ومرارة حرمان الأم والأب من ابنتيهما، رحمة لا
تختلف كثيرًا عن أسماء، فالطفلة رحمة 12 سنة، تم اختطافها واغتصابها وقتلها خلال
توجهها لعملها، نعم رحمة، صاحبة 12 عامًا، كانت تعمل، وقالها لي والدها، حينما
سألته أين كانت متوجهة طفلتك عندما تم اختطافها؟ فأجابني «والدموع تملأ عينيه»:
يا أستاذ، أنا راجل سايس على قد حالي، وهى كانت مصرة إنها تساعدني، لأن أختها
الكبيرة مينفعش نشغلها في بيوت الناس، وهي وأختها مش بيروحوا المدرسة، لأني مفيش
معايا فلوس أعلمهم».
«رحمة»، تعيش في ذهني،
وسأظل أتذكرها دائمًا، ليس بسبب الفقدان المرير الذي يعيشه أهلها والذي شاركتهم فيه
فقط، ولكن لكونها رحلة كفاح قصيرة بمنتهى الشرف، رحلة كفاح لطفلة قررت بكل قناعة
أن تتخلى عن حلمها كباقي الأطفال، وهو التعليم، وعقدت العزم أن تكون بـ100 راجل،
وتساعد والدها «الغلبان»، ولكنها اصطدمت بـ«ذئبين بشريين»، خططوا ونفذوا جريمتهما
وخطفوها واغتصبوها وقتلوها بمنتهى الوقاحة، لتكون نهاية الطفلة الضعيفة، ملقاة
داخل إحدى الترع، من أجل «20 ألف جنيه»، لم يستطع الأب أن يوفرهم للمجرمين.
أما عن «أسماء»، فهي قصة هزت الجميع مثلما هزتني،
وأبكت الجميع مثلما أبكتني، فرواية «أسماء» المأساوية تتكرر أمامي بصورة مستمرة،
فأوجعتني كل تفصيلة فيها، كوجع الألم الذي شعرت به الفتاة، وهي تودع الحياة على يد
اللص المتحجر القلب.
«أسماء» ابنة الدقهلية،
تركت منزلها في إجازتها الصيفية، وقررت أن تساعد والدها في ظروفها المعيشية، لتعمل
في إحدى المستشفيات، بعدما رفضت أن تستمتع بإجازتها، فـ«حافظة القرآن»، تفاجأت
باللص، يدخل شقتها المستأجرة، بمدينة نصر، وعقب كشفها له، أسرع نحوها محاولًا
قتلها، قاومته لدقائق، ولكن مرض «أسماء» أسرع من موتها، لتلقى رب كريم، داخل
شقتها، في واقعة هزت كياني، ووجدت نفسي، تسقط من عيني، الدموع على تلك الفتاة التي
«تشرف بلد»، ودموع والدها، وهو يحدثني عن جدعنة وكفاح نجلته «حافظة القرآن».
«رحمة» الطفلة المكافحة
رحلت، و«أسماء» الطالبة المكافحة رحلت، رحل الاثنان، وتركا بداخلي وجعا ما زلت
أتذكره، ومازال يؤلمني كلما تذكرته، كاد أن يقتل بداخلي أشياء جميلة، حتى كدت أشعر
بأنه لا أمان في تلك الحياة، التي منح المجرم لنفسه الحق في أن يسلب الحياة من
إنسانة بريئة كافحت بشرف ورفضت أن يتمتع بحياتها من أجل غيرها، فرحمة رفضت أن تكمل
دراستها كمثيلاتها من الأطفال، وذلك من أجل أسرتها، وأسماء رفضت أن تستمتع
بإجازتها كمثيلاتها من الطالبات؛ من أجل أسرتها.
الألم بداخلي لا يتوقف، ومازالت الأسئلة تتراود بداخلي: «ما ذنب رحمة وأسماء، وما الجريمة التي ارتكباها، لتكون نهايتهما على يد مغتصب، وسارق؟، وما زلت أتألم، ومازالت أشعر بقسوة فراق الطفلة والطالبة، فقسوة مشهد رحيل «رحمة» و«أسماء» ما زال أمام عيني، وما زلت أتذكرهما، حتى كاد الألم أن يقتلني.