كنا شبابًا.. الاندهاش الذى رسم على وجوه مجموعة من شباب السويس كان كبيرًا، وذلك عقب مشاهدتنا لأول مرة فى حياتنا مجموعة من الأفلام التسجيلية بأسماء كانت مدهشة وأكثر من رائعة بسبب نوعيتها الجديدة وفكرتها الإنسانية.
شاهدنا فى مركز شباب السويس الرياضى أفلام المخرجة عطيات الأبنودى «حصان الطين- أغنية توحة الحزينة- وفيلم سندوتش»، وقد أقيمت بعد أن شاهدنا العروض ندوة نقاش واسعة من خلال الأسئلة الساذجة والبسيطة التى طرحناها على المخرجة، وكانت الإجابات عميقة فى المعنى والثراء بالمعلومات، وقد استفدنا نحن أبناء السويس الذين لم نكن شاهدنا من قبل مجموعة من الأفلام التسجيلية.
وقد كانت مشاهدة الأفلام التسجيلية للمخرجة الدءوبة عطيات الأبنودى، نقطة انطلاق لنا لمعرفتنا الأوسع عن ثقافة وفنون السينما، بعد أن عرفنا فيما بعد أن هناك أفلاما أخرى، أفلاما تسجيلية ووثائقية غير الروائية التجارية.
كان ذلك فى فترة مهمة فى تاريخ السويس بعد عودتنا من الهجرة وبداية ما يسمى «فترة تعمير السويس» فى السبعينيات، فى الفترة ما بعد عودة الحياة الطبيعية بالسويس ومدن القناة.
بعدها قررت عطيات الأبنودى أن تعيش مع زوجها آنذاك الشاعر عبدالرحمن الأبنودى فى السويس، الذى عاش فيها بعد خروجه من السجن، وأقامت عطيات فى منزلها الريفى بمنطقة الجناين بالسويس.
وقد استمر تعلق عطيات بالسويس وحبها لشعبها إلى أن قررت أن تنتقل من القاهرة المزدحمة لتعمل وكيلًا لمديرية الثقافة بالسويس فى تلك الفترة التى كانت قد اهتمت فيها بأمومتها الاختيارية، ورعايتها الكاملة للطفلة النابهة «أسماء» ابنة الروائى المبدع «يحيى الطاهر عبدالله»؛ حيث حصلت أسماء على قسط من التعليم فى مدارس السويس.
ولم نكن نعرف أن المخرجة التى أطلقت على نفسها عطيات الأبنودى، أن اسمها الحقيقى «عطيات عوض محمود خليل»، كما جاء فيلمها التسجيلى «مين اللى باع واشترى»، الذى يكشف عنوانه عن الكثير من التاريخ الخاص بقناة السويس، والذى شارك معها فريق من عدد من الشباب، كان أبرزهم ابن السويس أنور فتح الباب، ولأنها قد انجذبت من البداية فى السويس بتجربة فرقة «أولاد الأرض» وقائدها الكابتن غزالي.
وقد ارتبطت بالسويس، وقامت عطيات الأبنودى بعرض فيلمها التسجيلى «مين اللى باع واشتري» فى حديقة مقهى «نيو سوريا» الشهيرة بروادها المثقفين والفنانين والسياسيين والشخصيات العامة.
وكان يملك ذلك المقهى ابن السويس الأشهر «المعلم يحيي» ابن البلد الأصيل؛ حيث كان المقهى ملتقى للندوات الفنية والإبداعية والحوارات السياسية الساخنة والموضوعية مع المرشحين للانتخابات العامة، وهو الحديقة والمقهى الذى أدارت أقوى حوارات لتقييم أداء أعضاء مجلس الشعب بالسويس من الحزب الوطنى، ولمتابعة أدائهم بأسلوب المناقشة والحوار الموضوعى والراقي.
كما كانت عطيات ضيفًا دائمًا على جلسات تجمع «الحصيرية» الشهير والأسبوعى بحديقة النافورة بجوار المحافظة، والذى كان يضم شعراء وكتابًا ومثقفين وأطباء وسياسيين من الكثير من أبناء السويس، وقد ارتبطت بعلاقات إنسانية معهم منهم، د. سيد نصير، المعلم يحيي، مصطفى عبدالسلام، ممدوح العشي، والشعراء: كامل عيد، محمود الخطيب، محمود الرشاش، حسين العشي، د. على السويسى... وغيرهم، إلى جانب كاتب هذه السطور، وكانت عطيات كريمة فى علاقتها بتلك الجلسات فى حواراتها أو مناقشاتها حول قضايا وهموم الوطن.
وقد أقامت ندوة ثقافية مهمة عن دور السينما والمجتمع فى النادى النوبى بحى السويس، حضرها لفيف كبير من أبناء النوبة والمثقفين فى السويس.
لقد أحبت عطيات السويس وكانت منجذبة نحو أبطال المقاومة الشعبية، وكانت تفكر دوما فى عمل سينمائى جيد يخلد معركة المقاومة من العمال والفلاحين والبسطاء من أبناء السويس، الذين دمروا دبابات العدو الإسرائيلى فى شوارع وميادين السويس، رافضين احتلالها؛ حيث أدركوا أن المعنى الحقيقى هو كسر وانتكاسة نصر أكتوبر المجيد، ومن هنا أشعلت المقاومة.
كما كانت عطيات تفكر فى مغزى خروج السوايسة من قبل أثناء وعقب هزيمة يونيو، حين خرج أبناء السويس لاستقبال الجنود العائدين؛ حيث فتحت البيوت والمطاعم والدكاكين فى كل الشوارع لاستقبال العائدين من الجنود المصابين والمجروحين، وكانت تؤكد ذلك بقولها: «الموضوع ده محتاج فيلم كبير».
عمومًا كان اسم عطيات الأبنودى فى السويس وعلاقاتها بها ذا مغزى ومعنى عميقين فى الفهم الإنسانى والوطنى والربط بين الفنان والواقع.
ومن هنا جاء حزن السوايسة على رحيل عطيات الأبنودى لعلاقتها الخاصة بالسويس، التى خصها جمال عبدالناصر بقوله: «ما من بلد ارتبط اسمه بالنضال والكفاح فى التاريخ الوطنى كما ارتبط اسم السويس».
إننى أدعو المجلس الأعلى للثقافة بأهمية عقد ندوة وتأبين يليق بالمخرجة عطيات الأبنودى ودورها الفنى، خصوصًا أنها كانت عضوا بلجنة الثقافة والإعلام بالمجلس، ويكفى أنها قد شاركت فى عضوية لجان التحكيم بمهرجان «أوبر هاوزن» بألمانيا، وهى التى قدمت أفلاما مهمة عن أيام الديمقراطية والمرشحات لمجلس النواب، وقد حصلت على جوائز عالمية لأفلامها الإبداعية التسجيلية «حصان الطين- توحة الحزينة- سندوتش»، وهى التى قدمت كتابين مهمين أيام اعتقال الأبنودى وكتابها «أيام السفر».. رحم الله عطيات الأبنودى بقدرما قدمت من إبداعات وظلت مهتمة ومهمومة بقضايا الوطن.