«وتعتبر حرب أكتوبر ٧٣، هى الجولة الوحيدة بين مصر وإسرائيل التى تصنف فى الحروب العالمية بأنها عسكرية فى المقام الأول؛ لأنها شملت عدة معارك تم إدارتها على جبهتين متقابلتين بشكل تصادم مباشر، وأنتجت دروسا مستفادة فى حرب الأسلحة المختلفة المشتركة وقدرات المقاتلين، ولذلك فإن إلحاق هزيمة بإحدى الجبهتين لم يكن بالشيء الهين، بل أعقبه تغيير فى موازين القوى وخلق استراتيجية عسكرية جديدة تضاف إلى القاموس العسكري، وصارت من الحروب القليلة التى يذكرها التاريخ بأنها مدرسة فى فن القتال والاشتباك».
أوجزت هذه الفقرة المقتبسة من التقرير التحليلى للكاتبة الصحفية المميزة والخبيرة فى الشئون العسكرية د. فاطمة سيد أحمد، والمنشور بمجلة «روز اليوسف» مطلع هذا الأسبوع، بعنوان «مفاجأة الـ١١٠ أيام حرب خداع.. الجيش الذى لا يقهر» كل ما يمكن أن يقال بشأن أن هذه الحرب كانت إعجازا عسكريا بكل المقاييس.
لكن السؤال الذى يطرح نفسه: لماذا لم يترجم هذا النصر العسكرى العظيم إلى انتصارات مشابهة على الصعيد الداخلى فى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، تنطلق بالمجتمع المصرى إلى آفاق التطور على نحو يمكن الدولة المصرية من امتلاك عناصر القوة الشاملة، ما يجعلها تستفيد من التغيير الاستراتيجى فى ميزان القوى، الذى أحدثه نصر أكتوبر، لتكون دولة رائدة بالنسبة لعموم دول منطقة الشرق الأوسط، وقادرة على التأثير فى محيطها الإقليمى والدولى بقوة توازى حجم الانتصار العسكرى الذى أنجزته؟!
فى رأيى، الإجابة تأتى دائما من الماضي، والمقصود هنا السنوات التى سبقت حرب أكتوبر المجيدة وتحديدا «ستينيات» القرن الفائت.
فى عام 1965، شهد شهر أكتوبر انعقاد مؤتمر الإنتاج لتقييم تجربة القطاع العام فى مصر بعد مرور نحو ثمانى سنوات من إنشاء المؤسسة الاقتصادية التى كانت تدير شركات القطاع العام والشركات المؤممة، ومن نتائج هذا المؤتمر، رصده لبعض العيوب التى ظهرت فى القطاع العام كمنظومة اقتصادية، منها على سبيل المثال، تسرب بيروقراطية الجهاز الإدارى للدولة إلى شركاته ووحداته الإنتاجية، تداخل الاختصاصات بين الوحدات الإنتاجية والمؤسسة الاقتصادية، تدخل بعض الوزراء فى الأعمال التنفيذية لتلك الشركات، ضعف الرقابة على أعمالها خاصة فى النواحى المالية.
هذا الحدث الاقتصادى يؤشر إلى أن دولة يوليو كانت حريصة على تقييم ذاتها والوقوف على الأخطاء والعيوب التى قد تظهر مع الوقت فى سياساتها وبرامجها.
وبعد هزيمة يونيو عام 1967، شهدت أروقة الحكم فى الدولة المصرية نقاشات واسعة حول ما إذا كان غياب الديمقراطية والتعددية السياسية سببا من الأسباب الرئيسية التى قادت إلى الهزيمة، ووفقا لبعض الكتابات فإن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان يميل إلى إعادة الحياة الحزبية التعددية لإصلاح نظامه السياسي.
فى 15 مايو من عام 1971، وبعد شهور قليلة من توليه مقاليد الحكم قام الرئيس السادات بما سماه بـ«ثورة التصحيح»، والتى عرفت بقضائه على مراكز القوى الناصرية التى بدأت تتكتل ضد مؤسسة الرئاسة، ومن وقتها اعتبر الناصريون وبعض قوى اليسار السادات عدوًا لثورة 23 يوليو.
وقد عزز هذا الإحساس بالعداء إفراج السادات عن قادة جماعة الإخوان والسماح لهم بالعمل بحرية داخل الجامعات، علاوة على انتشارهم فى المساجد والزوايا لمواجهة خصومه من الناصريين واليساريين.
ولأن عقل الدولة المصرية كان مشغولا بتدارك أخطاء الماضى فى كثير من الملفات الداخلية، وعلى رأسها الاقتصاد والتعليم والسياسة وقضية الحريات العامة، كان من الطبيعى أن يبدأ الرئيس السادات فى اتخاذ بعض الخطوات التى اعتبرها تصحيحا لبعض مسارات ثورة يوليو والتجربة الناصرية، وليواكب النصر العسكرى بإنجازات جوهرية على صعيد بناء الدولة من الداخل.
منها تأسيس المنابر السياسية «اليمين والوسط واليسار»، تمهيدا للإعلان عن دخول البلاد فى مرحلة جديدة تقوم على الاعتراف بالتعددية السياسية وقد تبع ذلك تحويل تلك المنابر إلى أحزاب سياسية، فى الآونة ذاتها خطى خطوة نحو مسار الإصلاح الاقتصادى؛ فكان إعلانه عن تحريك أسعار بعض السلع بمقدار قرش أو أقل.
ودخلت الدولة فى صدام مع النخبة كانت ذروته ما عرفت بأحداث 18 و19 يناير لعام 1977؛ حيث خرجت الجماهير متأثرة بالخطاب المعادى لإصلاحات السادات مما اضطره للتراجع عن قراراته الاقتصادية، ولأن الدولة لم تمض فى تلك الإصلاحات بسبب ضغوط نخبتها فقد المجتمع قدرته على الإنتاج، وغابت العدالة الاجتماعية، وظهر الانتهازيون واللصوص فى ثوب رجال الأعمال ليشوهوا منهج الانفتاح الاقتصادى الذى أراده الرئيس السادات.
وبعد نجاح دولة الـ30 من يونيو، فى هزيمة العدو التاريخى الثانى جماعات الإظلام الإرهابية؛ فإنها لن تقع فى نفس أخطاء الرئيس أنور السادات بعد تحقيقه النصر العسكرى العظيم على العدو التاريخى الأول «إسرائيل»؛ لأنها ستمضى فى الخيارات التى تفرضها مقتضيات الواقع وتحديات المستقبل.
ويبقى على دولة الـ30 من يونيو أن تمضى مباشرة نحو برنامج إصلاح سياسى يعيد بناء الحياة السياسية التعددية على أن تتم صياغة هذا البرنامج وخطواته وإجراءاته العملية بالتشارك مع الأحزاب السياسية الشرعية من خلال حوار مفتوح بين مؤسسات الدولة بدءا من الرئيس مرورا بالحكومة، ووصولا إلى المؤسسة التشريعية مع قادة ورموز هذه الأحزاب فالوطن بأمس الحاجة إلى ظهور نخبة سياسية وثقافية جديدة تمتلك أدوات التفاعل الإيجابى، وتتمتع بالقدرة على الفعل السياسي، والتأثير الثقافى والاجتماعى وإلا عدنا إلى نقطة الصفر.