ثمة خلط شائع بين مفهومي "الحضارة الدينية" و"العقيدة الدينية"، فالحضارة الدينية فيما نرى ترتبط بالمكان والتاريخ، أما العقيدة الدينية فتتجاوز حدود المكان وحدود التاريخ على حد سواء. نحن لا نستطيع أن نتحدث مثلاً عن "إسلام هندي" و"إسلام مصري"، ولكنا نستطيع أن نتحدث عن الحضارة الإسلامية المصرية والحضارة الفرعونية المصرية باعتبارهما مرحلتين حضاريتين تاريخيتين تتابعت كل منهما على المكان فاكتسبت طابعها واكتسبت منه ملامحه. والمكان في هذا السياق لا يعني الحدود والمظاهر المادية فحسب، بل يعنى أساساً البشر أصحاب المكان وصناع حدوده ومظاهره بصرف النظر عن مدى تطابقهم من حيث العقيدة الدينية. فالحضارة الدينية التي تسود موقعاً جغرافياً تاريخياً معيناً، لا تترك بصماتها على أصحاب عقيدة دينية دون سواها، بل إن تأثيراتها تشمل أصحاب هذا الموقع جميعاً وإن تباينت عقائدهم. ومن هنا، فإننا نستطيع أن نتحدث عن المسيحيين من أبناء الحضارة الإسلامية المصرية أو العراقية مثلاً، كما نستطيع أن نتحدث عن المسلمين من أبناء الحضارة المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا. قد تتباين احتمالات التأثير الحضاري الديني تبعاً لمقتضيات الزمان والمكان، كما قد تتباين احتمالات التأثر تبعاً للخصائص المميزة للأفراد وللجماعات، ولكن يبقى دائماً طابع تتركه الحضارة الدينية على الجميع.
ومن ناحية أخرى، فإن "الدولة" ليست شرطاً لقيام العقيدة، كما أن العقيدة ليست بدورها شرطاً لقيام الدولة. وإن كان ذلك لا يعني بحال إنكار ذلك التفاعل القائم بين الظاهرتين متمثلاً في صورة "الدولة العقائدية" كما نعرفها اليوم. ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الحضارة، فالحضارة السائدة ترتبط بمفهوم الدولة أو السلطة ارتباطاً وثيقاً تزدهر بازدهارها، وتضطرب باهتزازها، وتأفل بأفولها. ولا ينفي ذلك الاستنتاج حقيقة تعدد الدول في إطار الحضارة نفسها، بل إن الوحدة الحضارية قد تكون مدخلاً - في كثير من الأحيان - للتقارب بين الدول، بل ولتوحدها واندماجها في بعض الأحيان. ولا يضعف من هذا الاستنتاج أيضاً حقيقة ما يحدث أحياناً من ثنائية حضارية أو حتى تعدد حضاري في إطار الدولة الواحدة، فمثل هذه الظاهرة قد تكون مدخلاً في كثير من الأحيان لتهديد سلطة الدولة - بل ووحدتها - وفقاً لإمكانية تمرد الحضارة المقهورة على الحضارة القاهرة.
أن الإسلام دين، والعروبة قومية، فالإسلام دين وحد غالبية العرب، وجعل للعروبة شأناً كبيراً بالتاريخ، وأسهم في الثقافة والحضارة العربية إسهاماً متمايزاً عن أي إسهام آخر. ولكن الإسلام ليس العروبة، والعروبة ليست الإسلام. أن الإسلام قيمة دينية إنسانية بحد ذاته, وليس بحاجة إلى العروبة لإضفاء قيمة عليه أو لزيادة قيمته. وإن العروبة قيمة دنيوية إنسانية بحد ذاتها، أسهم فيها ويسهم حالياً المسلمون والمسيحيون وغير المؤمنين بالله، وليست حكراً على أحد.
إن "الإيمان الإسلامي" قادر أن يوحد المسلمين، بينما "الإيمان بالعروبة" والاتفاق حول مضامينها الحضارية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية هو القادر أن يوحد بين العرب. إن استعمال البعض للعروبة كسلاح ضد الإسلام والوحدة الإسلامية عقيم، وضار بالمسلمين والمسيحيين معًا، فالعروبة والوحدة العربية يجب أن تكون هدفًا لجميع القاطنين في البلدان العربية, لخدمتهم وخدمة الإنسانية. كذلك فإن استعمال البعض للعروبة كغطاء للإسلام وسلاح ضد المسيحيين عقيم، وضار بالمسيحيين والمسلمين معًا، لأن العروبة هدف لا وسيلة. إن استعمال بعض العروبيين للإسلام كسلاح لأغراضهم السياسية الدنيوية وأغراض من يساندهم من "الأعاجم" هو انتهاك لحرمة الإسلام وقيمته، وإقرار بعجزهم من دون هذا السلاح، وخطأ في تقديراتهم السياسية والعسكرية، وإشاعة الفوضى الفكرية والفتنة، في العروبة وفي الإسلام.