الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من الذاكرة.. عبدالناصر وحرب أكتوبر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تفصل بين ذكرى وفاة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر فى الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، وذكرى انتصارات حرب العاشر من أكتوبر 1973، أيام قليلة لا تتجاوز الأسبوعين. ترد على الخاطر ذكرى المناسبتين مصحوبًة بتساؤلات لا أملك لها ردًا: 
- ماذا لو كان جمال عبدالناصر امتد عمره حتى شهد انتصار الجيش المصرى على إسرائيل؟ 
- هل كان وقـَّع اتفاقية سلام مع إسرائيل؟ 
- هل كانت هذه الاتفاقية ستأتى مماثلة ومتطابقة فى بنودها مع اتفاقية كامب ديفيد؟ 
- هل كان سوف يصرح علانيًة، أكثر من مرة، إن أكثر من تسعين فى المائة من أوراق اللعبة السياسية فى منطقة الشرق الأوسط فى يد الولايات المتحدة الأمريكية؟ وإن حرب أكتوبر هى آخر الحروب؟
أعلم أن «لو» لا يجوز استخدامها حين نشرع فى كتابة التاريخ؛ لأنها لن تغير شيئًا من طبيعة ما حدث، وأعلم أيضًا أننى لست بصدد كتابة مقالة سياسية أقوم خلالها بتحليل فترة حكم كل من جمال عبدالناصر وأنور السادات، وتحديد ما لهما وما عليهما. إن كل ما أود كتابته هو سرد ذكريات شخصية عشتها وخبرتها تتعلق بحدث حزين هو وفاة عبدالناصر، وحدث عظيم هو حرب أكتوبر. 
حين توفى عبدالناصر مساء 28 سبتمبر 1970 كنت شابًا يافعًا، كنت فى زيارة بعض أصدقائى الشباب الوافدين من الأقاليم للدراسة الجامعية بالقاهرة، والمقيمين بشقة بحى شعبي، كنا نجلس نتبادل أطراف الحديث، وتتعالى ضحكاتنا بين الحين والآخر، وفجأة تعالت صرخات نسائية ممزوجة بنحيب بعض الرجال قادمة عبر النافذة المطلة على الحارة:
«يا ولدي.. يا حبيبي.. يا كبدي.. لا إله إلا الله.. يا أخويااااااااااااا.. يا أبويااااااااااا.. آآآآآه» ويتخلل هذا العويل صراخ نسائى مفزع، ونحيب رجالى مؤلم.
ظننت أنا وأصدقائى فى بادئ الأمر أن أحد سكان هذا الحى الشعبى قد وصله نبأ استشهاد ابنه المجند بالجيش المصرى أثناء حرب الاستنزاف التى سبقت حرب أكتوبر، والتى مهدت لها. وخرجنا نستوثق من الخبر، ونواسى أهل الشهيد، فعلمنا أن من مات هو الزعيم جمال عبدالناصر، فانخرطنا فى البكاء والصراخ والنحيب، وصرنا جزءًا من المشهد الحزين.
لم تذق عينى النوم، واصلت الليل بالنهار، خرجت موجات بشرية من شوارع وحارات كل الأحياء لتصب فى قلب العاصمة، ما أن بزغ الفجر حتى تلاحقت موجات البشر وتلاطمت، طوفت شوارع القاهرة وسط كتل ضخمة من البشر سيرًا على الأقدام، وظللت ملازمًا تلك الجنازة المهيبة التى لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، لم أكن أشعر بتعب أو عطش أو جوع، تساقط الكثيرون والكثيرات حزنًا وألمًا وإعياءً، وكان المسعفون ينتشلون من يسقط. طوفت أردد مع الحزانى أمثالى من المصريين وعينى تذرف دمعًا، وقلبى ينزف دمًا:
«الوداع يا جمال يا حبيب الملايين.. ثورتك ثورة كفاح عشناها طول السنين.. الوداع».
حتى اليوم كلما عُرِضَت مشاهد جنازة عبدالناصر أمامى على شاشة التليفزيون، لا أستطيع أن أمنع نفسى عن البكاء!!
بعد وفاة جمال عبدالناصر ظللت لعدة سنوات أحلم أثناء نومى أنه ما زال على قيد الحياة، وأثناء الحلم أشعر بسعادة غامرة وفرحة كبيرة، وأقول لنفسي، الحمد لله أن عبدالناصر ما زال على قيد الحياة، وأنه هو الذى يحكم البلاد، ولم يمت؛ ولكن ما أن أستيقظ من النوم، وأدرك أن ما كنت فيه كان مجرد حلم، وأن عبدالناصر مات؛ ولن يعود إلى الحياة مرة أخرى حتى أحزن وأغتم!!
كان عبدالناصر يمثل لنا فى مصر والعالم العربى حلمًا عظيمًا للاستقلال والوحدة. 
ما أن مرت شهور قليلة على وفاة عبدالناصر حتى التحقت بالجيش المصرى بوصفى مجندًا بالقوات المسلحة، وذلك فى الحادى والثلاثين من يوليو عام 1971، وأمضينا فترة التدريب، وبعد انتهائها تم إلحاقنا على قوة الفوج 521 دفاع جوي. كانت الحياة العسكرية داخل الجيش المصري، بخاصةٍ فى ظل أجواء الحرب، لها مذاقًا خاصًا، ونكهة مميزة، تتصف بحماس مفرط وشهامة وإنكار ذات، فضلًا عن الجدية الممتزجة بخفة الظل والنكتة الحاضرة، كنا لا نعلم متى تنتهى فترة تجنيدنا، فمن بيننا من اشترك فى حرب 67، وما زال موجودًا بالجيش، لذلك كنا جميعًا ننتظر بلهفة وشوق قرار إعلان الحرب على إسرائيل؛ لاسترداد أرضنا المغتصبة، ولإنهاء فترة تجنيدنا بالجيش. قبل قيام حرب أكتوبر، وخلال حرب الاستنزاف، ومن واقع خبرتى كمقاتل مصري، أشهد أن المقاتل المصرى أبلى بلاءً حسنًا فى قتاله ضد إسرائيل، فلقد نجح بعض الرماة حاملى الصواريخ المضادة للطائرات ممن كانوا يتعاملون مع الطائرات الإسرائيلية التى تطير على ارتفاعات منخفضة هربًا من رصد الردارات المصرية لها، نجح هؤلاء الأبطال فى إسقاط عدد كبير من تلك الطائرات، مما أثار فى ذلك الوقت قلق وفزع إسرائيل فى آن معًا.
أثناء حرب الاستنزاف كنا نتسابق لعبور قناة السويس للقيام بعمليات خاصة خلف خطوط العدو، كان الاختيار يقع على عدد قليل منا، والباقى يشعر بالأسى لأن الاختيار لم يقع عليه، وكان قائد الكتيبة الشاب يواسى من لم يقع عليه الاختيار بأن الأولوية ستكون له فى العمليات القادمة. لقد سطر مقاتلونا صفحات بطولة رائعة طوال حرب الاستنزاف، وأعتقد أن هذه الحرب لم تنل ما هى جديرة به من الدراسة والاهتمام.
عبرت قواتنا قناة السويس فى السادس من أكتوبر عام 1973، واختلفت حياتنا فى هذا اليوم، كمقاتلين بالجيش المصري، عما سبقها، كنا فى عرس، غمرتنا الفرحة جميعًا. إنه يوم الخلاص، تسابقنا على أداء المهام المطلوبة منا، بل تدافعنا للقيام بما هو أكثر من المطلوب، وبذل القادة جهدًا فائقًا لكبح جماح ذلك الحماس الزائد. وتوزعت المهام علينا، بعضنا اتجه إلى جبهة القتال مباشرةً، والبعض الآخر اتجه إلى المطارات الحربية، لاستقبال شحنات أسلحة قادمة من بعض الدول الصديقة لإيصالها إلى مقاتلينا فى الخطوط الأمامية. كانت ملحمة بطولية رائعة بكل المعايير والمقاييس تخطيطًا وتنفيذًا، تُوِجَت بانتصار عظيم. 
رحم الله جمال عبدالناصر.. ورحم شهداء مصر.