تمتليء خزانة الحروب بمعين لا ينضب من الحكايا والوقائع، فالحرب الكُره لها قبيحها وسيئها حد البشاعة والتقزز حين يظهر الأفراد والجماعات والدول تشفيهم وانتقامهم من خصومهم فى لحظة نشوة الانتصار التى غالبًا ما تعمى الأعين عن دروس الحرب التى هى كر وفر، انتصار وهزيمة دواليك! هل يمكن القول إن للحرب نبيلُها! ففى الحرب تقتنص الأنفس ما تشغف به حتى وإن بدا كسراب! إذ شبح الموت يجعل اللحظة فارقة فى مواجهة النهاية فيغنم فيها الإنسان أية بارقة متعة وأمل حين تستوى الحياة والموت كما إجابة حاذقة طريفة لبرنارد شو!
ما وُثق ومثل استعادة ومراجعة فى ما خرج علينا من آداب العالم (رواية وقصة وسيرة ونصًا شعريًا، صحفيًا...) وفنون (مسرح وسينما ودراما، وثائقيات...) بل متاحف بها مجسمات ومقتنيات وصور نادرة تعرض لمواطنى تلك الدول أو لسواحها وزائريها، كلها خصت اهتماما وعناية لساعات بل سنين أحداث ووقائع الحروب ما جعلها سجل ذاكرة، ومثار دراسة وبحث حول المصداقية أو المبالغة والتوظيف، ودروس لأجيال متلاحقة تعلمها الاضطلاع بمعرفة ومقاربة تاريخها كما وترفع قيمة رموزها ومناضليها ومن يقدمون دمهم وأرواحهم، وما قُدم من مساهمات عينية ومادية من قليلهم أو كثيرهم حسب ما اقتضته ضرورة ساعة الحرب والمواجهة.
فى ذاكرة الحروب فى منطقتنا، ما واجهته شعوبنا ولا تزال تواجهه نلحظ فى رصدنا جهودًا تتوزع وتتنوع توثيقًا وتسجيلًا وإفرازًا أدبيًا وفنيًا، نماذج ذلك الزخم الذى نالته القضية الفلسطينية من داخل وخارج جغرافيتنا إذ ظلت لعقود الانشغال المركزى إثباتًا لحق اغتصب وحفاظًا لازمًا لبصمة شعب راسخة لا محيد عنها لأن غاصبًا محتلًا يغتال ويسرق ويزور تاريخًا لصالحه، وإن خفت ذلك الزخم مؤخرًا مع ما ضرب وخلخل أوضاعًا عربية ذهبت شعوبها باتجاه انتفاضة المطالبة بحقوقها وظهر أن الطريق صعب وعسير، الذاكرة الجزائرية أيضًا ملفتة ما مركزيتها فنون كسينما قرن النضال ضد الاستعمار الفرنسى مثلا، واللبنانية فى سنوات الحرب الأهلية والعراقية أدبًا وسيرة وشهادات، ليبيا التى لا تعرف السينما أشهر نماذجها كأفلام حرب ومقاومة «الشظية»، و«تاقرفت»، وعالمى هو الفيلم الشهير «عمر المختار».
ما طالعته وشاهدته وسمعته عن الذاكرة المصرية الموثقة لانتصارات حرب 6 أكتوبر 1973م هو أيضًا سجل حافل ملفت فيه كتب مؤرخة، ومذكرات قادة الحرب وأبطالها من الجنود، ودراسات لكواليسها، ولم يغب الشعر والسرد، وفن الصورة والصوت، بل وترجمة لاعترافات قادة الطرف المهزوم، هى الذاكرة الذخيرة المعرفية لجيل عاصر، ولمن لم يعاصر ينبغى أن تتوافر أيضا لأحداثٍ من القرن الماضى لحروب مهمة ومصيرية محليًا وعربيًا لنا أن نقرأ كتبًا تاريخية وثقافية، وسيرًا وشهادات من بعض العسكريين والقادة، ونشاهد صورًا فوتوغرافية أُستلمت من أصحابها من لهم علاقة قريبة أو بعيدة، أو سلمها صحفيون مراسلون موثقون فى ساحة ودائرة الحرب، أما فن المسرح والسينما والدراما فيتنوع فى إلمامه بسيرة وحياة شخصية أو سرده لواقعة بعينها.
لكن الأسئلة الباحثة والملحة ما زالت تطرح حول مدى ما نبذله من جهود لنجمع ونوثق ونبحث وندرس ما مر من وقائع عند ساحة وميدان الحروب ندوبهُا ومفاخرها رموزها ومهمشيها، وجعلها فى المتناول دروسًا وعبر، معنويًا كإدراجها فى المقررات والمناهج وإقرارها كأيام احتفاء ومناسبات، وماديًا كتبًا وتماثيل ومتاحف وغير ذلك، صحيح أنه ليس فى المكنة الاستعادة الموثوقة الكاملة فقد يغيب الحقيقى والمهم ما حمله وما ساهم به من ظلوا هامشيين عند التقصى والبحث للحفظ والتوثيق، ويحضرنى تلك الجائزة (نوبل 2015) التى أثارت دهشة واستغرابًا عالميًا عن مدى جدارة وأهمية مضامين مادة من تحصلت عليها، وهى الكاتبة الصحفية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش (من مؤلفاتها: ليس للحرب وجه أنثوي - فتيان الزنك - مسحور بالموت - آخر الشهود) إذ ذهبت تستقصى زوايا مجهولة وغير مطروقة، ذاكرة نساء وقفن عند جبهة الحرب، والعائدون منها، أطفالها وجنودها.
ذاكرة الحرب ذاكرة موجعة مخضبة بالدماء والفقد، وسؤال الضرورة ذكر هيردوت فى الكتاب الرابع المختص بليبيا أن فيها قبيلة النساميون ذهبت لمحاربة القبلى (تسمى الخماسين فى مصر) كانت ريحا تهب وتجتث محاصيلهم فخرجوا لها ولم يعودوا..! ما ندعو لحفظها وتوثيق سيرتها هى حرب الضرورة دفاعًا عن قضية، أو حياض، أو مبدأ جدير أن يبذل لأجله ذلك الكُره ما يمكن أن نسميها حروب المقاومة والدفاع ولعل حفظ سيرها وتوثيقها لأجل إثبات وترسيخ ذلك.