ملاحم البطولات غالبا ما تُداعب منطقة الخيال فى الذاكرة.. وحده يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ كسر هذه القاعدة، حتى أصبح فى الواقع إلى نهاية التاريخ الملحمة التى فاقت كل ما يشوب الملاحم من تهويل.. انتصار تحول بالأدلة سواء على صعيد الاستراتيجية العسكرية، أو التضحيات العظيمة إلى مشهد يجسد معنى البطولة العظيمة. على مدى ٤٥ عاما تناولت تحليلات أهم القادة العسكريين وخبراء الأجهزة الاستخباراتية عبقرية هذه الحرب التى لا تزال تداعياتها تلقى بظلالها على العالم العربي.. بل إن مراكز أبحاث ومعاهد دراسات عسكرية – بما فيها الإسرائيلية- لا تزال تتناول بالدراسة انتصار أكتوبر، والأخطاء التى وقعت فيها إسرائيل.
بين كل صفات التمجيد التى تليق ببطولات أكتوبر.. يجدر التوقف أمام التداعيات الإنسانية.. وأبرزها العزة والكرامة التى استعادها الإنسان العربى بعد الانتصار العظيم. من المشاهِد التى لم تستوعبها سنوات الطفولة آنذاك، أذكر أن نسبة مواطنين كبيرة من مختلف الدول العربية كانت تلجأ فى أوروبا إلى إجابات غير حقيقية ردا على السؤال عن الدولة التى ينتمون إليها، خجلا أو منعا للتعرض إلى صفاقة واستهزاء السائل لو كان يهوديا.. كانت الردود قبل أكتوبر ١٩٧٣ تختلف بين إيطاليا، إسبانيا، إيران، هو وحده منحنا الشرف والكبرياء ورفع رؤوسنا فى كل دول أوروبا حين نجيب «أننا عرب».
انتصار أكتوبر لم يتوقف عند تحطيم أجواء النشوة والثقة المطلقة التى سادت إسرائيل فى إطار أكذوبة «الجيش الذى لا يقهر» وتعرية الفشل الاستخبارى الإسرائيلى أمام العالم، حتى شكلت هذه الضربة الموجعة نقطة تحول عسكرى وسياسى ما زالت المراكز الإسرائيلية تتخذها مرجعا فى وضع أبحاثها عن المستقبل.. خصوصا أن الصدمة الوطنية للرأى العام الإسرائيلى لم تختف آثارها عبر العقود الماضية. إعجاز أبطال الضفادع البشرية الذين قاموا فى الليلة التى سبقت العبور مباشرة بتعطيل فتحات مواسير «النابالم» التى تم وضعها على جانبى قناة السويس، لتضخ بدلا منها فى الشريان العربى دماء الكرامة.. مغزى عميق يغمر الزائر فور أن تطأ قدميه الساحل الشرقى لقناة السويس حيث آثار خط بارليف.. وتتسمر القدم عن السير فوق الرمال المشربة بدماء الشهداء الطاهرة.
حجم صدمة الرأى العام الإسرائيلى لا يزال يتكرر سنويا وفق شهادة أدلى بها مؤخرا رئيس الكنيست الإسرائيلى السابق إبراهام بورج، مؤكدا إصابة كل إسرائيلى بحالة هلع كلما حلت ذكرى حرب أكتوبر التى فقدت إسرائيل بسببها المشروع الأهم فى تاريخها.. مشروع الحلم الصهيونى الكبير.. بل إن مشاعر تجدد الخوف والرعب هى العامل المشترك فى اعترافات كبار مسئوليها السابقين والحاليين مع حلول ذكرى أكتوبر.
قوة مصر العسكرية اختُبِرت يوم ٦ أكتوبر فى حرب عادلة بين جيشين.. أحدهما خدعة تفوق زائف عام ١٩٦٧ لا يمكن تصنيفه كحرب استنادا إلى كل المراجع العسكرية فى العالم، أعقبه شعور فائض بالثقة تحول إلى غطرسة وغرور وقلة حذر- لا عجب وأن أفراده مجموعة مرتزقة وفدوا من مختلف بلاد العالم- فى المقابل، تجلت عظمة الجيش الوطنى المصرى بعد اكتمال مقومات الاستعدادات العسكرية وهى تتكلل بأقصى درجات العوامل النفسية من عزيمة، وعقيدة الأيمان بالتضحية فالنصر أو الشهادة، عدالة القضية.. ما جعل صلابتهم تُحيل سلسلة التحصينات الدفاعية «خط بارليف» فى ساعات إلى حطام وأطلال. صفعة مريرة أعادت تقييم صورة الجيش المصرى فى المخططات الإسرائيلية سواء السياسية أو العسكرية. الإشكالية الأهم أن هذه الحقيقة لا يمكن قراءتها بمعزل عن استهداف الجيوش العربية – على رأسها الجيش المصري- إذ ليس من باب الصدفة أن يكون الجيش المصرى هو الكلمة المحورية فى الأحداث السياسية التى توالت على مصر منذ عام ٢٠١١، ولم تسلم من التدخلات الخارجية التى فشلت مساعيها فى الفصل بين الشعب والجيش على مدى السبعة أعوام الماضية.
سياسيا، منحت حرب أكتوبر العرب لحظات نادرة للتضامن العربى بعدما أصبح فى نظر العديد مجرد تعبير ضمن مقتنيات المتحف السياسي. فلسطين أصبح لها مكان على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بعدما عرض الراحل ياسر عرفات لأول مرة قضية وطنه أمام أعضاء الجمعية.. تلا ذلك اعتماد الجمعية العامة بأغلبية ساحقة، قرارا يعتبر الصهيونية العالمية حركة عنصرية.. انتصار أكتوبر وضع العالم العربى وقضية الصراع مع إسرائيل فى دائرة الاهتمام العالمى حتى اللحظة الحالية.
هذه الروح الجديدة التى أضاءت سماء المنطقة العربية لم يتم استثمارها حتى الآن بالشكل الأمثل على نطاق مختلف المجالات، سواء فى صناعة المستقبل، ضرورة وحدة القرار العربي، فى تقديمها إلى العالم بالمستوى الذى يليق بالشرف الذى منحه انتصار أكتوبر للعالم العربى، حتى عبر أدوات ما يسمى القوى الناعمة سواء دراما، سينما، للأسف أغلب – وليس كل- إنتاج السينما عن حرب أكتوبر غرق فى دائرة قصص ميلودرامية يتم إقحام الحرب عليها كحدث هامشي.