الشعب المصرى بكل مقوماته بعد حرب 67 استجمع قدراته وتصاعدت نبضاته واكتملت مقوماته، هذا هو شباب مصر النخبة فى كل مرحلة يستوعب أسرار المعارك، لم يعد قرار الحرب إلا قرار كاشف وليس منشئًا فهو ملك الشعب بكل فئاته، لأنه شعب يبحث عن ذاته ويؤكد مقدساته.
الشعب المصرى لم يكن فقط فى حالة غليان، لكنه كان قراره الخيار المأمون ليتحقق له النصر فى الميدان.
الشعب المصرى كان يتعطش للثأر ويتوق إلى لحظات النصر، ويرفع أعلامنا ترفرف معلنة نهاية الذل والقهر، وعاد إلى حضن مصر كل شبر وسنتيمتر.
ارتفع فى سماء المعركة أروع نداء وأرفع منهج لحماية الشرف بدماء الشهداء الله اكبر.. الله اكبر فاهتزت له الأرض والسماء.
كل عنوان فى هذا الانتصار يحمل سجلًا للاعتزاز، برجال خططوا لاستعادة الشرف للأمة العربية، فالمدرسة العسكرية المصرية لها جذور عريقة فى التقاليد وفى طقوس احتفالاتها، والذى يتابع العروض على الجدران الأثرية أو نهج المدارس المتعاقبة يجدها تمثل التراكم على مدى العصور، فشخصية المقاتل المصرى فى كل مراحله تستحق التأمل والتكريم لأن الساحة تجعل من شخصية المقاتل المصرى يحتل مكانه فى التصنيف الذى تعتمده الأكاديميات العريقة، فهناك مدارس عسكرية تاريخية مثل الإنجليزية يتصرف مارشالاتها وكأن كل منهم الإسكندر الأكبر أو نابليون.
لكن جوهر ومظهر المدرسة المصرية واحد، حيث وقف المقاتلون يتصافحون فى أكتوبر الماضى أمام حشد القوات المسلحة ومشهد رائع من مشاهد البطولة المصرية، فالمقاتل هو القائد الأعلى ابن المؤسسة العسكرية يشيد بأيديه على هذا البطل الآخر فى عيد الفخر يسلمه الوسام الذى يستحقه ويكون الرد.. لقد كتمت السر فى قلبى مدة أربعين عامًا واليوم أعلنته تحت راية القائد الأعلى ووسط الحشد من حماة الشرف العربي.
وقف المقاتل أحمد إدريس أمام الرئيس السيسى لكى يوقع فى صفحة لسجل البطولة لمنظومة الفخر والفداء معلنًا تتويج عهد المقاتل ابن النوبة الذى صنع ملحمة غير مسبوقة فى عالم الحروب العسكرية ووصلت فى أدبيات العلم الحديث لتصبح أخطر العمليات العسكرية وتأمين التحركات ضد (التنصت) وهى مخزون المعلوماتية، والجيوش التى حققت نجاحًا فى هذا المجال هى التى استطاعت الاعتماد على منهج التمويه وتبارى أصحاب العقول اليقظة لأسلحة الإشارة بما يقال عنه عالميًا إنه يعتبر «حاسة التنبه» التى تعطى لهذا الجهاز المعقد فى التركيب بيولوجيًا كل إشارات الضوء فى وسط الظلمات، فإن هذا السلاح يعتبر من المؤثرات بل وأخطرها وكتمان الأسرار التى لا تجرؤ الألسنة على البوح بها، فالحروب ليست مجرد أسلحة، لكنها فى المقام الأول ضرورة وفهم وقدرة على التصور والخطط على الميدان أو على المستوى الاستراتيجى الأوسع، فهناك منظومة الأمن القومى فإذا تحدثنا عن المخابرات العامة فإنه منذ 67 تولى رئاستها الوزير أمين هويدي، ثم الوزير أحمد كامل ثم المشير أحمد إسماعيل، ثم اللواء فؤاد نصار والفريق كمال حسن وهو مقاتل عنيد قائد مرموق فى سلاح المدرعات، بل كانت له مواجهات معروفة ولم يعد شارون هو نجم المدرعات بعد أداء كمال حسن علي.
كما ترك الدكتور عبد القادر حاتم مسئولية وزارة الأعلام وتولى الدكتور أشرف غربال المتحدث الرسمى باسم الرئاسة وتولى ممدوح سالم منصب وزير الداخلية، كما حظى السفير محمد حافظ إسماعيل بمكانة سياسية فهو صاحب فكر سياسي، ثم مدرسة الاتحاد السوفييتى فى أوج مكانة دولية واختاره الرئيس السادات ليكون مستشارًا للأمن القومى، فلم يكن مجرد مساعد، بل استطاع بتواجده أن يمثل (صخرة جرانيتية للمعلومات) فهو عاشق للمسئولية.
كان الرئيس السادات يداعب حافظ إسماعيل، لكن تكشيرته الأحادية التعبير لا تجد لها صدى فى نفس السادات، لدرجة أنه أطلق عليه «كيشنجر العرب» يقصد أنه صاحب أكبر تكشيره فى التاريخ.
نقطة أخرى لا يعرفها الرأى العام، وهى أن السادات كان يدير آلية العمل بشكل مؤسسى دقيق، لأن أى خطأ فى الحساب يكلف الجميع الكثير، لذلك لم يكن مقابلته على انفراد واختار لهذه المرحلة شخصية لم تسلط عليها الأضواء هو المهندس عبدالفتاح عبد الله الذى اختاره الرئيس من سلاح المهندسين لوزارة الحرب وقرر تعيينه وزيرًا للدولة، فهى عقول أدارت منظومة الأمن القومى بمنظومة لا تعرف حدا أدنى للخطأ وقدرة نادرة وعقلية مرتبة، فكان بمثابة أكاديمية للقرار الاستراتيجى لكسب أى حرب، وهو من ابتكر فكرة الدولة العميقة فضلًا عن قدراته الفائقة فى تحويل النظريات لواقع، حساباته لا تعرف العواطف، وشاهد على هذا اثنان من أعضاء مكتبه هما المرحوم أحمد ماهر السيد وزير الخارجية الراحل، والدبلوماسى صاحب القرارات الفائقة على المستوى العربى هو الوزير أحمد أبو الغيط، ويكفى أن حافظ إسماعيل كان يواجه أكبر سياسى عرفه العالم فى ابتكار نظريات متجددة، وهو هنرى كسينجر وهو أول من استحدث فلسفة الأمن القومى واستطاع أن يقف على مساواة لهذا السياسى الأمريكى الذى أكدت العسكرية المصرية مكانتها بعنوانها وفدائية رجالها وعظمة سجلها وعدالة قضيتها والحفاظ على دماء أبنائها على استقلال أوطانها والصمود بالعزيمة فى جميع اختياراتها وشجاعة تشكيلاتها وسموها نحو أهدافها وروت كل بقعة بطهر دماء رجالها، ذابت الطبيعة وعزفت هذه المنظومة أعظم ألحانها وأشجع مارشاتها.
جاءت حرب أكتوبر لتعلن يوم الحساب، فقد تصور الموساديون وهم النصر وفتح الأبواب وفوجئ الجميع برجال الصمت والنصر بضرباتهم الموجعة التى أصابت قادة إسرائيل بالاكتئاب، بطولات صنعتها منظومة جمعت بين الخبرة والشباب ورجال أمننا القومى أمسكوا بيمينهم القسم وأعلوا قيمة الكتاب وما يتحدثون عن الملاك بطولة زائفة لو كانت فى صحيفة أو حتى فيلم أو كتاب، وهم صنعه الموساديون ومن يحاول ترديده لا يكون إلا مسيلمة الكذاب، فالمقاتل المصرى أوقف وهم الملاك وأثبت أن عبوره بداية الهلاك، واستطاع أن يوقع القوة التى لا تقهر فى الشباك، أما الدجالون فقد أثبت الشعب من الأعماق أنه جسد واحد يجمع الهلال والصليب أما أعلامكم وأفلامكم فمصيرها المدافن غير الصحية والسراديب.