اهتمت رسالة الباحثة دينا طارق محمود المعيدة بقسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، والتى أشرفتُ عليها ونوقشت مؤخرًا، بواحدة من أهم الظواهر الصحفية التى أدت إلى تغيير كبير فى الممارسات الصحفية وطرق عرض القصة الصحفية وهى «صحافة البيانات»، والتى ظهرت بفضل الكم الهائل من البيانات المتاح الآن عبر شبكة الإنترنت وكذلك نتيجة لتزايد قدرة الصحفى على الوصول للوثائق وقواعد البيانات المختلفة، وهنا أصبح التحدى الأكبر أمام الصحفى متمثلًا فى كيفية استغلال هذه البيانات لتقديم قصة صحفية شيقة تحتوى على حجم كبير من البيانات يسهل على القارئ الحصول عليه واكتشافه من خلال طرق العرض البصرية التى يعتمد عليها الصحفى فى رواية القصة.
والآن يتصاعد الوعى بأهمية صحافة البيانات فى العالم أجمع يوما بعد يوم، وأصبحت صحافة البيانات هى حاجة ملحة لدى المؤسسات الصحفية التى تريد البقاء فى واجهة المشهد وأن يستمر تأثيرها فى الرأى العام، خاصة مع تحرك صناعة الإعلام بوتيرة سريعة واستمرار ظهور أساليب جديدة لرواية القصص الخبرية والاستفادة من أسلوب السرد القصصى وعرض المحتوى.
وقد استهدفت هذه الدراسة رصد واقع صحافة البيانات فى مصر بشكلٍ عام، وبحث كيفية توظيف صحافة البيانات بالمواقع الإخبارية المصرية بالمقارنة بالمواقع العالمية بشكلٍ خاص، والوقوف على الاختلافات فى تقديم القصص الصحفية المدعمة بالبيانات بمصر والعالم سواء من خلال حجم البيانات المستخدمة أو مصادرها أو طرق عرضها، بالإضافة إلى التعرف على أهم البرامج والأدوات التى تعتمد عليها المواقع الإخبارية المصرية فى تقديم قصص صحافة البيانات، كذلك اهتمت الدراسة باكتشاف أهم المهارات والمتطلبات التى يحتاجها الصحفى ومصمم البيانات علاوة على التحديات التى تواجهها، كما سعت الدراسة لرصد دور الإدارة فى المؤسسات الصحفية المصرية فى تدعيم صحافة البيانات والعاملين بها من خلال توفير المناخ المناسب لنشر هذا المجال الجديد وتطويره.
وقد عرضت الدراسة فى جانبها النظرى لنشأة ومفهوم صحافة البيانات وكذلك أهم عناصر فريق العمل والمهارات التى يحتاجونها، بالإضافة إلى مراحل إعداد قصة صحفية مدعومة بالبيانات بداية من جمع البيانات والتحقق منها مرورًا بتحليلها ثم عرضها فى شكلٍ بصرى جذاب يمكن القارئ من اكتشاف البيانات بسهولة، واهتمت الباحثة بعرض أهم النماذج الرائدة فى صحافة البيانات والتى تمثلت فى كل من «الجارديان» البريطانية و«نيويورك تايمز» الأمريكية، وهما من أولى الصحف التى اهتمت بتطبيق صحافة البيانات فى العالم.
وقد توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج المهمة؛ فبالنسبة للفروق بين المواقع المصرية والعالمية فى المحتوى الكمى وطبيعة القضايا والمجال الجغرافى لها والهدف من قصص صحافة البيانات، تبين أن هناك تفوقا فى المحتوى الكمى لقصص صحافة البيانات بالمواقع العالمية مقارنةً بالمواقع المصرية، حيث وجدت الباحثةُ خلال عامٍ 215 قصة صحفية مدعومة بالبيانات بالمواقع العالمية فى مقابل 105 قصص بالمواقع المصرية، وهو ما يعكس اهتمامًا متزايدًا بصحافة البيانات فى مصر والعالم.
واعتمدت المواقع الإخبارية المصرية عينة الدراسة فى مضامين النسبة الأكبر من قصص صحافة البيانات المنشورة بها على أحداث جارية سواء كانت محلية أو دولية، حيث بلغت نسبة قصص صحافة البيانات التى تضم فى مضمونها حدثًا «35.2%»، أما المواقع الإخبارية العالمية فتهتم بالتركيز فى قصص صحافة البيانات على المضامين التى تعالج وتناقش الظواهر المجتمعية المختلفة فى المرتبة الأولى، فنجد أن نسبة «32.6%» من عينة القصص الصحفية التى تم تحليلها تعالج فى مضمونها «ظاهرة» سواء كانت إيجابية أو سلبية.
وقد تصدرت القضايا السياسية المضامين التى اهتمت بها المواقع الإخبارية المصرية عينة الدراسة؛ وذلك بنسبة «40.9%» من إجمالى الموضوعات التى تم تحليلها من هذه المواقع، أما المواقع العالمية فإنها تهتم فى المقدمة بالقضايا الاجتماعية التى تهم المواطن، فجاءت هذه القضايا فى المرتبة الأولى بنسبة «40.5%»، ومن أهم القضايا الاجتماعية التى جاءت فى مقدمة أولويات اهتمام المواقع الإخبارية العالمية التعليم، والصحة، والفقر، والسكان، مع التركيز على القضايا التى تهم كل فئة عمرية على حدة سواء كانوا شبابًا أو كبار السن أو أطفالًا.
وتمثل الهدف الرئيس لتقديم أية قصة صحفية مدعومة بالبيانات فى المواقع الإخبارية المصرية هو عرض الأرقام والإحصاءات المختلفة التى تتعلق بموضوع معين، والتى حصل عليها الصحفى من قاعدة بيانات أو مصدر معين، وذلك بنسبة 48.6% من عينة القصص التى تم تحليلها، وليس بهدف عقد المقارنات أو إظهار العلاقات والروابط المختلفة، أما المواقع الإخبارية العالمية فتتقارب فيها نِسَب أهداف تقديم القصص الصحفية المدعومة بالبيانات، وتتنوع بين المقارنة بين القِيَم، وإظهار روابط وعلاقات، وإظهار التغير عبر الزمن، وعرض الأرقام والإحصاءات، وهو ما يعنى اهتمام هذه المواقع بتنوع أهداف تقديمها وتحليلها لموضوعات صحافة البيانات دون التركيز على هدف دون الآخر.
ولم تهتم المواقع المصرية بوضوح بسياق القصة الصحفية المدعومة بالبيانات؛ حيث جاءت فئة «غير واضح» بنسبة 81% من عينة المواد التى تم تحليلها بهذه المواقع، ففى غالبية موضوعات صحافة البيانات تلاحظ الباحثة أن الصحفى تقتصر وظيفته على جمع أرقام حول موضوع معين يريد عرضه دون البحث عن سِياق صحفى أو ترتيب منطقى للقصة، أما فى المواقع العالمية فنجد أن النسبة الأكبر جاءت لفئة «وجود سياق صحفى واضح» وهى «82.8%»، وهذا يُبين ما تحرص عليه هذه المواقع عند تقديم قصة صحفية مدعومة بالبيانات، فالأولوية لتحليل الأرقام والدلالات وربطها ومقارنتها بعضها ببعض من خلال سياق صحفى ومسار منطقى لعرض البيانات يُبين الأسباب والنتائج.
وركزت قصص صحافة البيانات المقدمة فى كلٍّ من المواقع المصرية والعالمية على المضامين والقضايا المحلية، حيث بلغت نسبة المحتوى المحلى «56.2%» من جملة ما نُشر فى المواقع الإخبارية المصرية، ومنها موضوعات الانتخابات، وارتفاع سعر الدولار، والمشكلات الناتجة عن ذلك، وقضية السكان والعشوائيات، وحوادث الطرق وانهيار العقارات، ونسبة «63.3%» فى المواقع الإخبارية العالمية، ومنها على سبيل المثال موضوعات قضايا السكان والفجوة بين الرجل والمرأة، وقضايا الطفل وما يتعرض له من عُنف أو جرائم جنسية، والرعاية الصحية وأوضاع المستشفيات.
ونستكمل عرض نتائج الدراسة الأسبوع المقبل بإذن الله.