أعترف أنى أكثر الناس حظًا حين كلفتنى الإذاعة المصرية فى عام 92 بكتابة مسلسل درامى عن حرب أكتوبر بعنوان أبطال من بلدى، وذهبت إلى إدارة الشئون المعنوية بخطاب ممهور بتوقيع الراحل حلمى البلك رئيس الإذاعة آنذاك وبصحبتى المخرج القدير محمد مشعل، وهناك وجدت نفسى كمن وقع على منجم من ذهب، فقد التقيت ضباطًا شرفاء يحبون تراب هذا الوطن ويتمنون الشهادة لأجله، واغترفت كثيرًا من هذا المنجم بغية أن أسد عطشى لإدراك معنى اكتوبر، وبالفعل عرفت ما لم أكن أعرفه عن هذه الحرب الخالدة، وازددت معرفة حين التقيت رجال المخابرات الحربية، والذين قدموا لى الكثير من قصص الأبطال والشهداء وتكرر ذهابى إلى المكانين خاصة بعدما عهد لى البرنامج العام أمر مسلسل أكتوبر كل عام، فرحت اغترف أكثر وأكثر من هذا المنجم الذى لا ينضب، والتقيت أصحاب البطولات وبعض القادة الذين شاركوا فى صنع ملحمة النصر واستطعت أن أسجل معهم أشرطة كاسيت ما زلت أحتفظ بها إلى الآن، واستطعت جمع معلومات تكفى لكتابة مائة فيلم سينمائى وعشرات المسلسلات والروايات، وبالفعل قمت بكتابة العديد من الأعمال الإذاعية التى تجسد بطولات حرب أكتوبر، وعكفت على كتابة فيلم سينمائى كبير لتخليد هذا الحدث التاريخى الفريد، لكنه ولظروف إنتاجية لم يدركه النور بعد، وخصص لى اللواء عادل مسعود من وقته ساعات طويلة يشرح لى فيها تفاصيل المعركة، والحق أن أول سؤال يرنو إلى ذهنى دائمًا حين أتحدث عن النصر هو ماذا لو أن نكسة يونيو 67 كانت هى آخر الحروب؟ هل كان بوسعنا أن نرفع رؤسنا أونستشعر كرامتنا؟ وهل كنا سنصل إلى هذه النتيجة التى أعادت لنا سيناء، وأصبحنا نرتاد سانت كاترين وشرم الشيخ ورأس محمد ودهب أم أن الوضع كان سيبقى على ما هو عليه بعد النكسة، وكنا إلى الآن لم نزل فى انتظار المبادرات الأمريكية لحل الأزمة ونتطلع لقرارات مجلس الأمن الخاصة بمد وقف أطلاق النار، وفى هذا المناخ الحربى لايمكن لأحد أن يتحدث عن الديمقراطية أو حرية فنحن جميعًا أسرى للمعركة القادمة بما فى ذلك ميزانية الدولة التى سيتم تخصيص الجزء الأكبر منها لتجهيز الجيش، لكن أكتوبر العظيم فتح أبوابًا جديدة للتاريخ وغير خارطة حاضرنا ومستقبل أولادنا، أقول هذا لهؤلاء السفلة الذين يشككون فى نصر أكتوبر ومن بينهم تلك الهاربة التى تنعق عبر مواقع التواصل الاجتماعى بما لا يليق عن جيش مصر وتصف رجاله بالعسكر الذين هم خير أجناد الأرض والذين نعيش الآن بفضلهم فى دولة متماسكة لها هيبتها بين الأمم، وإذا أردنا الحديث تفصيلًا عن نصر أكتوبر فعلينا أن نبدأ من الخميس 9 يونيه 67 حيث أدركنا يومها أننا نواجه نكسة خطيرة، وإن كان جيشنا لم يهزم لأنه لم يدخل المعركة أساسًا وإنما تم الغدر به صباح 5 يونيو.. وكان لزامًا على القيادة السياسية وقتها أن تعترف بهذا، وأن تضع الحقيقة أمام الشعب المصرى، وهذا ما حدث مساء التاسع من يونيو، لقد كانت العقول مشتتة والهواجس بداخل كل بيت فى مصر، والجميع يتساءلون: ماذا حدث؟ كان المصريون عطشى لمعرفة الحقيقة حتى وإن كانت مؤلمة، وقد بدأت تتسرب عبر الإذاعات الأجنبية، وإن كنا ما زلنا ننكرها، وأذيع أن الرئيس عبدالناصر سيدلى ببيان مهم فتعلق الجميع بالراديو ينتظرون على أحر من الجمر هذا البيان لعله يرحمهم ويذهب عنهم الشك والريبة، لكن عقب إذاعة البيان إزاد الإحباط والألم، فقد أعلن عبدالناصر مسئوليته عن الهزيمة، وأعلن تنحيه عن السلطة، انهمر الجميع فى البكاء، ولا أحد يمكن أن يحدد أهو بكاء مرارة الهزيمة أم بكاء تخلى عبدالناصر عن القيادة، فلقد عرف هذا الجيل عبدالناصر كزعيم وقائد وبطل وها هو ذا يتركهم، فماذا يفعلون؟..خرجت جموع الشعب صغيرها وكبيرها، شبابها وشيوخها، بناتها ونساؤها ترفض الهزيمة وتطالب عبدالناصر بعدم التخلى عنها فى هذا الوقت وفى هذه المحنة، وأعلن الشعب إصراره على مواصلة الكفاح ورغبته فى الثأر واستكمال المعركة التى لم تبدأ بعد، واستجاب عبدالناصر لرغبة لشعب وزاد يقينه أن يقود مصر إلى النصر وأدرك أن هذا الشعب يصعب عليه الهزيمة، ويصعب عليه أن تنكس أعلامه أو تنحنى هاماته أو أن يصمت وأرض سيناء محتلة وهكذا أعلن الشعب المصرى رفضه الاستسلام ورفع شعار «ما أخذ بالقوة لن يسترد إلا بالقوة»، وعلى الجانب الآخر كانت نشوة الانتصار تغمر إسرائيل طولها وعرضها، احتفالات وأفراح لا حدود لها، فقد حقق الجيش الإسرائيلى ما لم يكن فى الحسبان، وأقنعت إسرائيل العالم كله بأسطورة الجيش الذى لا يقهر وأن مصر لن تقوم لها قائمة قبل عشرين سنة وأن هذه الحرب ستكون نهاية الحروب مع العرب لأنهم لن يتمكنوا من دخول حرب جدبدة بعد الخسائر التى تكبدوها، أما الأراضى التى احتلتها إسرائيل فلن يتم التفريط فيها أو إعادتها مرة أخرى، ولهذا فقد بدأت إسرائيل فى وضع خطة دفاعية عن سيناء، وكانت أعمال التجهيز الهندسى المكثف تسير على قدم وساق، ومن منطق القوة والانتصار رفضت إسرائيل جميع القرارات الدولية بالانسحاب، وبدأت تتصرف بتعنت وصلف مع أى مبادرة أو قرار دولى، وقد يكون غريبًا على الجميع أن يعلموا الآن أن قرار الحرب قد اتخذ فى العاشر من يونيو 67 حيث تحددت الغاية القومية للدولة فى تحرير الأراضى المغتصبة وإعادة سيناء إلى حضن الوطن.. وللحديث بقية
آراء حرة
ملحمة أكتــوبر - 1
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق