هذا المبدع المتمرد... صاحب المنهج والفكر المتفرد.. فيض من عطاء النيل ليروى النفوس ويجدد.
رفض مسيرة القطيع وأشعل الفكر الثورى فى هذا الزمن المتجدد.
رفض الاستقالة من مبدأ الطاعة ويستقل قطار الوطنية ليقوده بالجدل والحوار يصون المبادئ ولايبدد.
مبادئ لا تعرف القهر، مدرسة معاصرة المبدع هو النبض الحقيقى للمواطن البسيط من خلال عناصر تعكس أشعة الأمل مهما تحالفت عناصر الشر عليه، واعتقال أفكاره وحكموا عليه بالاعتقال وبالسجن المؤبد.
قال بكل قواه فهو لم ينسف أو يغتال أو ضبط متلبسًا يتغنى بالنيل فتم اعتبارها اتهامات ثابتة عليه مع سبق الإصرار والترصد.
ضبطوه يفكر ويقرأ الصحف متداولة الاتجاهات لكنه ضبط يقرأ جريدة الشيخ على يوسف جريدة المؤيد.
محمد خليل قاسم.. كل تهمته والذنب الذى اقترفه أنه تغنى بالشمندورة.
اعتبروها قنبلة.. ومدفعا رشاشا.
يقول الشمس تشرق.. يكون الرد أنك شرقي.. شيوعي.. يساري.. اتهامات مبعثرة.. وأفكار متناثرة.
قالوا له لا تكتب على النوبة لأنها جريمة لا تسجل خواطر له لأنك فى المساحة الممنوعة.
ينادى محمد خليل قاسم من أعماقه.. على الشمندورة فكان الرد أن مكانك إما فى مستشفى العباسية أو مستشفى المعمورة.
ينادى محمد خليل قاسم أننى كرست حياتى وأفكارى من أجل هذه القضية فقال إنك قاتل واكتشفت فى النهاية أننى القتيل.
ناديت من خلف الأسوار لكى أنادى على الشمندورة فكانت الإجابة أننى أتحدث عن المستحيل.
اتهمونى بالفكر واتهمونى بأننى أتخابر مع دولة أجنبية وتتحدث من خلال شفرة غير معروفة لا تكتب بالحبر السرى فرد عليهم أنها الرطانة يا إخواننا.. هى لهجة أبناء النوبة.
ضحكت منهم لأن شر البلية ما يضحك هذا هو خط سير محمد خليل قاسم.. ابن (قته) وهو اسم القرية.
كلفونى بالضحك على الاسم.. اسم البلدة وأسماء الأجداد.. ضحكوا وأضحكونى ثم أعدوا قائمة بأسماء التنظيم السرى الذى يمولنى بالبيانات من حرضوني... اعتقلوني.. ثم سجنوني.. ثم عذبوني.. وكل شىء فى حياتى به غسلوني.. وتنظيف برك الدم بعد أن حاصروني.... وبالحبس الانفرادى ميزوني.
كانت ذكرى مرور نصف قرن على الأب الروحى للأدباء النوبيين محمد خليل قاسم ابن قرية (قته) التى ولد فيها عام 1922 م فى عمق أرض الذهب والتحق لحلم الأسرة أن يكون محاميًا لسان حال النوبة إلا أن ميوله الإنسانية الإبداعية واعتبر أن كلية الآداب هى الرئة التى تنفس من خلالها حيث اكتشف أن مواهبة تناديه لصياغة رؤية عميقة ثقافية للمنظومة الإبداعية فترك حقوق جامعة فؤاد الأول وتحرك إلى كلية الآداب وهناك وجد ضالته فى إعادة اكتشاف نفسه وصياغة مبادئه الفكرية المنهجية بروح جديدة يستظل بها الفكر الاشتراكى لكى يقف على محطة النضال محددًا موقعه على يسار الحركة الوطنية ولكى تشغل إحساسه وتلهب معانى رسخت ونضجت فى وجدانه، ومع المبادئ التى بدأت تجذب قوى اليسار تحول إلى عالم ومرشد ومفكر ورائد رافعًا مبادئه النقية وقبل المبادئ رافعًا رأسه شامخًا، وإذا كان الكاتب الكبير خيرى شلبى قد وصف الشمندورة التى صاغها محمد خليل قاسم بأنها أعظم روايات القرن العشرين وأنها فى صدارة الأعمال المكتوبة باللغة العربية وأنها رمز للحياة الثقافية المعاصرة بينما قال الأستاذ سعيد الكفراوى إنها ملحمة ممتدة فى الزمان والمكان... ومن عندى أقول إنها ملحمة معلمة.. بل وملهمة.
بينما قال الكاتب الكبير يوسف القعيد تظل هذه الرواية هى النص المؤسسى لكتابة رواية نبيلة بل تتفوق على كل ماجاء بعدها.
هذا النموذج.. هذا هو صفحة رائعة فى حياة الشعب وفى مطلعها أبناء النوبة... ويقال إن هذه الملحمة كما يقول أصحاب الفكر المنطلق إلى آفاق الروح حيث قيلت أصول هذه الرواية التى تتغنى بالروح الوطنية بكل مفردات النضال والمبادئ وسطوع شمس جديدة فى سماء الفكر، وتعرضت قوى اليسار لكل ألوان التعسف والبطش وحاولت أن تكون هذه الأفكار تحت الحراسة بل خلف الزنزانة وظلت هذه الروح تطارده، لكن محمد خليل قاسم كان مثل الصخرة أو كما يقال إنه يؤمن بأفكار من أجل بلاده مؤمنًا بعقائدة حتى لو تحرك قلبه من الشمال إلى اليمين فهو فى مكانه المكين.
وكان زاد الفكر الذى تحقق له الثراء داخل أفكار التى أصبحت تجدد نفسها وأصبح أرض هذا الفكر هو الأرض الخصبة حتى ولو داخل السجون.. فأصدر إبداعاته الشعرية داخل السجن وأصدر القصة داخل السجن... وأصدر تراجم موسوعية حول الدراسات السياسية داخل السجن وهكذا تحول محمد خليل قاسم إلى رمز للفكر المستنير وتحديدًا بين أشجار النخيل وحقوق الذرة وأمواج النيل وبيوت الطين، وفى وصف شيق وسرد خال من المبالغة تصور الشمندورة من خلال الطفل «حامد» حياة النوبيين ومعاناتهم فى ثلاثينيات القرن العشرين وكيف كانت معاناتهم فى سبيل الحصول على تعويض من بيوتهم وأراضيهم التى دمرها الطوفان بينما الجالسون فى القاهرة لا يبالون عاش الناس.. أم ماتوا.. لما يبالون وحياتهم فى يسر.. بينما أتى الطوفان على أراضى الفقراء.
هذه الملحمة التى تحولت إلى مسلسل إذاعى ونشرت فى المجلات الكبرى واستطاع هذا المفكر العقائدى أن يرسم لوحة تشكيلية إبداعية غير مسبوقة على صفحة النيل على صفحة النوبة.. فهو يبدأ مدخله بأن كل شىء هادئ ساكن... وأشجار النخيل لا تهتز أعطافها.. والنيل يرقد تحت أقدامنا هامدًا لايتحرك والدواقة وصور المراكبة بأصواتهم الخافتة.. تردد أغنيات دافئة وأكواب شاى فى الضحى أعدت على نار هادئة، وتجولت الكاميرا تصور والريشة تسجل والأفئدة ترصد وتناول المأساة وسمع من الشيخ جعفر يهتف «أرض الله واسعة» وسيعوضنا أحسن من أراضينا قالها من لهجة حزينة والشيخ فضل (هو جد كاتب هذه السطور) الذى يقول عن أبناء النوبة.. مساكين.. نحن مساكين.. لنا ربه اسم الكريم.. وستحدث قرى النوبة «الديوان» فى أحضان النيل.
قال عنه أستاذى وصديقى المفكر والفليسوف محمود أمين العالم إنه سطر بإبداعه برؤية إنسانية شامله تجمع بين الخاص والعام، وبين الوطنى والقومى والإنساني، بين التسجيلى والشعري، بين التقريرى والرمزي، بين التفاصيل الصغيرة والرؤية الشاملة، بين المحنة القياسية والشموخ الإنساني، بين شراسة الواقع وعطر العاطفة الإنسانية الذاخرة بالوداعة والطيبة والصدق والشجاعة ومحبة الجمال والحياة بين رصانة اللغة وشفافيتها الصافية الوصية.
«الشمندورة» فى الأسطورة.
«الشمندورة» سر الصورة.
«الشمندورة» شامخة ولن تصبح مكسورة.
«الشمندورة» مكانها فى صدر المقصورة.
«الشمندورة» صامدة صبورة.