منذ أحداث 11 سبتمبر لم يروج الساسة ووسائل الإعلام لفوبيا الإسلام فحسب، بل أصبحوا يؤرخون بهذا الحدث
لسلسلة من الأكاذيب عن الإسلام فى القرن الحادى والعشرين، وهى أكاذيب تاريخية
بالفعل، لكنها تستند إلى تفسيرات مشوه أو انتقائية للماضى. من هنا يأتي أهمية
الطرح الذي تقدمه ديبا كومار أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة روتجرز فى كتاب
«فوبيا الإسلام والسياسة الإمبريالية» والذى نقلته إلى العربية أمانى فهمى والصادر
مؤخرًا عن المركز القومى للترجمة.
بينما كانت بقية أوروبا تمر بفترة ركود ثقافي تعرف باسم عصور الظلام، شهدت الأندلس، وهو الاسم الذي أطلق على شبه
الجزيرة الأيبيرية تحت الحكم الإسلامى، نمو المعرفة البشرية وتطورها. فأعمال مختلف
المجتمعات العظيمة بدءًا من الإغريق إلى الفُرس، ترجمت إلى اللغة العربية فى
المكتبات الكثيرة التى أنشأها الحكام المسلمون. وكانت مدينة قرطبة بإسبانيا أحد
المقار العظيمة للمعرفة. ففيها تحققت أوجه تقدم هائلة فى ميادين الفلسفة والطب
والفلك والمعمار، بل حتى فى مجال التنمية الحضرية. بينما كانت بقية أوروبا قابعة
فى الظلام، كان مواطنو قرطبة يتمتعون بأنوار الشوارع وبالمياه الجارية.
وليس مما يبعث على الدهشة، فى سياق حضارة مزدهرة، أن تتبدد المواقف
السلبية تجاه مسلمي إسبانيا.
وشكا كاتب مسيحى، متحدثًا عن تغير المواقف هذا، من أن المسيحيين مغرمون بقراءة
قصائد العرب وقصصهم الغرامية؛ وهم يدرسون المنظرين والفلاسفة العرب، لا لدحضهم بل
لتكوين لغة عربية صحيحة وأنيقة. فأين هو رجل الشارع الذى يقرأ الآن التعليقات
اللاتينية على هذا الكتاب المقدس، أو الذى يدرس الأناجيل الأنبياء أو الرسل؟ وا
أسفاه! إن المسيحيين الشبان الموهوبين يقرأون ويدرسون بحماس الكتب العربية! وهم
يقتنون مكتبات ضخمة بتكلفة باهظة؛ وقد نسوا لغتهم. فمقابل كل شخص يستطيع أن يكتب
حرفًا باللغة اللاتينية إلى صديق يوجد آلاف يستطيعون التعبير عن أنفسهم باللغة
العربية بأناقة، ويكتبون قصائد بهذه اللغة أفضل من قصائد العرب أنفسهم.
ومن الناحية الفكرية، على أوروبا أن تدين بالعرفان للباحثين فى الشرق
الأدنى. فإمبراطوريات إسلامية شتى لم تستهل فحسب حقبة شهدت ترجمة الأعمال العظيمة
لثقافات مختلفة بل شهدت أيضًا فترة تطور. فعلى سبيل المثال، بنى الباحثون المسلمون
على المفاهيم العلمية الفارسية واليونانية، ومهدت أعمالهم السبيل لعصر النهضة
ولنشوء العلم الحديث.
ولكن فى تلك المرحلة لم يعد المسلمون عدوًا واحدًا بين كثيرين؛
فالغزاة الوثنيون الآخرون الذين غزوا أوروبا المسيحية بلا هوادة فى القرنين التاسع
والعاشر اعتنقوا المسيحية وجرى إدماجهم. وكان العدو الوحيد الذى بقى هو المسلمون.
لكن هذا لا يعنى أن أوروبا كانت موحدة وتحيا فى وئام. بل أصبح الإسلام، بالأحرى هو
«الآخر» المناسب لحشد الدعم لما يطمح إليه حكام شتى من غزو للأراضى. وفى إسبانيا،
بدأ الحكام فى الشمال حربًا لاستعادة شبه الجزيرة الأيبيرية من «العدو المسلم»
فيما أصبح يعرف باسم إعادة الاستيلاء.
وفى الشرق، تعرضت الإمبراطورية البيزنطية المسيحية لسلسلة من الهزائم
على أيدى الأتراك السلاجقة المسلمين. فقد شنت أوروبا حربًا مقدسة (تُعرف باسم
الحروب الصليبية) فى عام 1095، ودعت جميع المسيحيين فى أوروبا إلى الاتحاد ومحاربة
«أعداء الله».
ومن ثم فإن صورة العدو المسلم وصورة الإسلام كديانة شيطانية بدأت
تبرز فى هذا السياق فى أواخر القرن الحادى عشر. وكان حشد السكان من أجل شن حرب
مقدسة يقتضى حججًا دينية؛ وأصبح من الضروري اكتساب معلومات عن الإسلام وتعاليمه
وحياة النبى مُحمد وما إلى ذلك من أجل سوق الحجج ضدها. وهنا مثلت أعمال بطرس
الناسك وآخرين مادة مفيدة للكنيسة لمهاجمة الإسلام على أنه هرطقة ولمهاجمة مُحمد
على أنه نبى زائف.
لقد روج الفكر الاستشراقي لخمس أكاذيب بشأن فوبيا الإسلام نعرضها باختصار، وهي: الأكذوبة الأولى: الإسلام ديانة أحادية الخواص. فى القرن الحادى عشر، عندما بدأت صورة العدو المسلم تتبلور، لم يبذل الباحثون الدينيون الذين أصدرت النخبة الأوروبية تكليفًا لهم إلا بضع محاولات لفهم مختلف فروع الإسلام وممارسته الفعلية من قبل المسلمين فى مختلف أنحاء العالم. فقد أرادوا، بدلًا من ذلك، كشف مُحمد كمدع وكشف الإسلام كدين زائف. ولم يُستثمر قدر كبير من الوقت فى معركة كيف دمج الإسلام الممارسات الثقافية للإمبراطوريات والشعوب التى قهرها أو كيف تحول بفعل الثقافات المختلفة بحيث اتخذ أشكالًا مختلفة فى المناطق المختلفة. وللحديث بقية..