كتبت قبل شهور فى مقال نشرته هنا عن فوضى اللافتات التى التهمت جمال منطقة وسط البلد بالقاهرة، كتبت غاضبًا ومنتقدًا هذا القُبح، كتبت مُطالبًا بالحسم لننقذ معًا المحمية الأثرية الرائعة التى تنافس عن حق وعن جدارة مناطق كاملة فى أوروبا.
ومثلما ارتفع صوتى بصرخة الإنقاذ، أكتب اليوم مُبشرًا، بالفعل تم اتخاذ الخطوات العملية لإزالة غابة اللافتات من على واجهات العمارات ذات الطابع الأثرى فى ميدان باب اللوق فى شارع قصر النيل فى شارع طلعت حرب فى كل الشوارع التى تطولها يد محافظة القاهرة، لذا وجب الشكر والتقدير لكل مهندس وكل عامل تحرك فى اتجاه تحرير وسط البلد.
ويبدو أن الأمر لا يسير بالتفاهم والاقتناع، مازال بيننا للأسف بعض المتعلمين لا يعرفون أبجديات التحضر، منهم محامون وأطباء وتجار وغيرهم، برغم الإلحاح من الجهات التنفيذية على ضرورة التخلص من تلك المخالفات، إلا ذلك البعض قد سد أذنيه حتى صارت إحداهما من طين والأخرى من عجين، ويتجلى ذلك التجاهل عند المحلات التجارية التى تعتقد أنها أقوى من الدولة ويعتقد أصحابها أنهم قادرون على وقف عجلة التحضر.
لذلك اضطر حى عابدين إلى توزيع منشور قام بتوصيله ولصقه فى مداخل معظم العقارات المُخالفة يطلب المبادرة برفع اللافتات من على واجهات العمارات، ولأن فكرة المبادرة لم تترسخ بعد فى وجدان المجتمع، فمازال أغلب المخالفين يعتمدون البلطجة والتجاهل، ومن هنا جاءت لغة منشور حى عابدين الذى وقعه لواء أركان حرب محمد محمود أنيس رئيس الحى أكثر حدة، حيث أوضح أنه فى حالة عدم الاستجابة سوف يتم اتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية وإزالة الإعلانات بمعرفة الحي، وأنه سوف يتم تحميل المخالف مصاريف الإزالة جميعها وتحصيلها عن طريق الحجز الإداري.
كل التحية والتقدير لهذه الروح الواضحة التى دعت إلى المبادرة والتعاون والتى أكدت جدية حضور الدولة بالحسم الرادع، وهنا نقول إن المشاركة الشعبية كما تعلمنا فى أبجديات العمل العام هى طريق التغيير، بل إن أحزابا كبيرة اعتمدت ذلك فى عناوين برامجها العامة كحزب التجمع مثلًا، وبدون تلك المشاركة سيكون إيقاع الحياة صعبًا على المواطن وعلى الدولة معًا، واتخذت فكرة إزالة اللافتات كنموذج لما يجب أن يكون عليه التعامل مع مختلف أمور حياتنا.
أعرف أن تلك الإجراءات تأتى بمتابعة دقيقة من محافظ القاهرة اللواء خالد عبدالعال وأن الجهود متواصلة ليس فى وسط البلد فقط، ولكن أيضًا فى حى الزمالك وجاردن سيتى لإزالة الإعلانات التى شوهت العمارات التاريخية، فإذا كنا نبحث بالفعل عن تنشيط الحركة السياحية وعودة نهر العملة الصعبة إلى اقتصادنا فلابد من التعامل مع الضيف باحترام عينيه، فليس ذنب السائح أن نؤذيه بكمية التشوهات التى صنعناها بأيدينا، وكذلك من حق أجيالنا القادمة أن تنشأ على الذوق الجمالى ليقرأوا من التصاميم المعمارية تاريخ بلادهم.
تبقى نقطة أخيرة وأمل كبير وهو مثلما تعاملنا بجدية مع الإعلانات أن نتعامل بتلك الجدية فى استعادة الرصيف للمشاة، وعودة الرصيف أراها فى محورين، الأول وقف عدوان الأكشاك وتمدد المقاهى وبروز الفتارين من المحلات، والمحور الثانى هو العمل على توحيد كود ارتفاع الرصيف فليس من المنطقى أن يسير الناس بين سهول وهضاب، طموحنا كبير فى مصر جديدة ومستقبل مضيء نستحقه، أملنا فى كوادر قيادية بالمحليات تعرف معنى الوطن ومعنى خدمة الناس وتيسير أمور حياتهم اليومية، وإذا كان مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، فعلينا أن نعرف أننا فى انتظار خطوات أخرى أوسع تعيد الجمال إلى مدينة القاهرة التى هى بالفعل من أجمل مدن العالم، لولا ما أصابها من تشوهات وعشوائية خلال العقود الماضية.