تأثرت الصحافة على مدار تاريخها بعديد من الظواهر والتطورات المتلاحقة التى كان لها أكبر الأثر فى تغيير كثير من الممارسات الصحفية، وتعد «صحافة البيانات» Data Journalism إحدى هذه الظواهر الجديدة التى ساعدت تكنولوجيا الاتصال الحديثة بشكل أساسى فى تطويرها وتقديمها فى أشكال مختلفة أكثر تفاعلية وجاذبية. وتعتمد «صحافة البيانات» بشكل أساسى على تحليل البيانات والأرقام المتاحة وتجسيدها فى جداول ومنحنيات وخرائط وغيرها من أشكال بصرية، لتتيح حقائق وأخبارًا جديدة لم يكن من السهل الحصول عليها دون تلك الأرقام. لكن الأمر لا يقتصر على تجسيد تلك البيانات فى رسوم، وإلاّ كان أحد متخصصى التصميم، أو الرسوم المعلوماتية Infographics يفى بالغرض، ولكن صحفى البيانات يقوم بتحليل تلك الأرقام قبل أن يجسدها فى رسوم ليأتى بقصة صحفية جديدة ومميزة.
ومنذ وقت ليس ببعيد، كان من الصعب أن يصل الصحفيون إلى قواعد البيانات إلا بشِقِ الأنفس، وفى كثير من الأحيان يقوم الصحفيون باتباع طرقٍ تقليدية لتجميع البيانات بأنفسهم من سجلات ورقية، لكن مع انتشار شبكة الإنترنت وتوغلها فى أركان العمل الصحفى تغيرت قواعد اللعبة. فنحن نعيش الآن فى ذروة العصر الرقمى؛ حيث تتراكم فيه البيانات لحظيًا أكثر من أى وقت مضى، إلى درجة جعلت البعض يطلق على البيانات مصطلح «النفط الجديد» لكون النفط متاحًا ما دمنا ننقب عنه، البيانات كذلك متاحة إذا ما سعينا للوصول إليها، لتبقى النُدرة مسألةً نسبية.
وفى الواقع تزداد قوة العلاقة بين البيانات والصحافة فى جميع أنحاء العالم؛ ففى عصر البيانات المكثفة تكمن الأهمية المتزايدة لصحافة البيانات فى قدرة ممارسيها على إيجاد المضمون ووضوح الرؤية، وربما يكون الأهم هو إيجاد الحقيقة من بين الكم الهائل للبيانات فى العالم. وهذا لا يعنى أن وسائل الإعلام ليس لها دورٌ أساسى اليوم، بل بالعكس تمامًا ففى عصر المعلومات نحتاج للصحفيين أكثر من ذى قبل للإشراف على المعلومات والتحقق منها وتحليلها والجمع بينها. وفى هذا السياق، تجد لصحافة البيانات أهميةً قصوى فى المجتمع.
وبظهور الصحافة الإلكترونية، بدأ عصرٌ جديد فى مجال التحرير والإخراج الصحفى للعناصر البنائية الإخراجية غير التقليدية؛ مثل الوسائط الفائقة، والوسائط المتعددة من صوت وفيديو ورسوم متحركة، ومن عناصر إخراجية أخرى مثل الألوان والجداول والفواصل، وأيضا من عناصر بنائية تفاعلية سواء كانت تواصلية أو معلوماتية؛ ممَّا أتاح فرصةً كبيرة فى التعرض أكثر إلى المضامين الصحفية، نظرًا لما تتميز به الصحف الإلكترونية من الجمع بين تكنولوجيا النشر التقليدية وتكنولوجيا الإنترنت الحديثة.
وقد أكدت الدراسات التى تناولت التصميم والإخراج أن من أهم وسائل جذب القرَّاء إلى مواقع الصحف الإلكترونية والتأثير فى العملية الإدراكية لديهم جودة الأساليب الإخراجية التى تقدمها هذه المواقع، بالإضافة إلى أشكال تقديم الأخبار ومدى اعتمادها على الصور والرسوم والوسائط المتعددة؛ فالنص الصحفى المصاحب بالرسوم المتحركة أفضل من النص الذى يظهر بالأسود دون صور أو رسوم، وكذلك الأخبار إذا صُممت بشكلٍ متحرك تجمع بين العناصر التفاعلية المختلفة؛ مثل الصورة والفيديو يزيد من العملية الإدراكية للمعلومات المقدمة، كما أن الرسوم الصحفية تقف جنبا إلى جنب مع الحروف، سواء حروف المتن أو العناوين فى نقل الرسالة الإعلامية إلى القراء.
والآن ينتشر بين الصحفيين مفهوم خاطئ مفاده بأن الصحافة الإلكترونية هى صاحبة السبق فى استخدام صحافة البيانات، لكن أرشيف الصحف المصرية والعالمية تحمل تاريخًا لافتًا فى استخدام «الإنفوجراف» والرسوم التوضيحية المعلوماتية الجاذبة للانتباه لتوصيل المعلومات للقارئ دون استخدام الكثير من الكلمات.
لكن الأشكال البيانية التقليدية- كالدوائر أو الأعمدة البيانية أو الرسم البيانى الخطي- تتناسب أكثر مع الصحف أو المجلات المطبوعة، نظرًا لافتقار وسائل الإعلام المطبوعة إلى التفاعل مع القارئ. لكن إذا أردنا أن نستخدم تلك الأشكال البيانية فى المواقع الإخبارية أو حتى فى المدوّنات الشخصية؛ فمن الأفضل أن نضيف إليها الجانب التفاعلى الذى يتيح للمتصفح اكتشاف المزيد من المعلومات، دون الخروج عن سياق التصميم أو جعل الصورة مزدحمة بالمعلومات.
ومن الملاحظ أن الصحافة الإلكترونية وصحافة المواطن وشبكات التواصل الاجتماعى أدت إلى تطور سريع فى مجال النشر الصحفي، وخلقت جيلًا جديدًا من القرّاء يسعى وراء أبسط وأسرع وسيلة لإيجاد الخبر، ونتيجة لتلك السرعة فى إيقاع الحياة عمومًا وفى عملية نقل الأخبار، بالإضافة إلى تسارع الأحداث نفسها، اتسم القارئ المستخدم للصحافة الإلكترونية بمختلف أشكالها بالملل. ولم يعد يطيق قراءة موضوع تصل كلماته إلى 700 كلمة أو أكثر. ولم يعد «سحر الكلمات» جاذبًا له كما كان فى الماضي، وأصبح يسعى وراء الجديد سواء فى شكل المادة المعلوماتية المقدمة أو المضمون، وأيضًا بدأ يعزف عن ارتياد المواقع الإخبارية التى اعتاد عليها، نظرًا لما تقدمه شبكات التواصل الاجتماعى من تغطية سريعة للخبر.
ولذلك ظهرت صحافة البيانات التى تعد أحد الأشكال الصحفية التى انتشرت فى المواقع الإلكترونية كمحاولة لجذب القارئ وكوسيلة للمنافسة بين الوسائل الإعلامية. ومن هنا نجد أنفسنا أمام شكلٍ جديد من الصحافة بدأ ينتشر بشكل ملحوظ فى المواقع الإلكترونية، وإن اختلفت درجة الاهتمام به من موقع لآخر. ولكن تبقى صحافة البيانات نوعًا من الصحافة يتميز بقدرته على جذب عدد كبير من القراء من خلال تبسيط المعلومات والأرقام وتقديمها فى أشكال بصرية تفاعلية، لذلك أصبحت الحاجة ماسة إلى دراسة هذا المجال الجديد للتعرف على أهم تطبيقاته، بالإضافة إلى البرامج والأدوات المستخدمة فى إنتاج الموضوعات المتعلقة به، وكذلك رصد الدور الذى تمارسه صحافة البيانات فى تسهيل عملية استيعاب وتحليل الأرقام والإحصاءات التى تحتوى عليها القصة الصحفية، ورصد المهارات والمتطلبات التى يحتاجها القائم بالاتصال الذى يعمل فى مجال صحافة البيانات بالإضافة إلى التحديات التى تواجهه.
فى هذا الإطار، جاءت رسالة الباحثة دينا طارق محمود المعيدة بقسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وعنوانها: «مُحدِّدات توظيف صحافة البيانات فى المواقع الإخبارية المصرية والعالمية: دراسة للمضمون والقائم بالاتصال»، والتى أشرفتُ عليها ونوقشت مؤخرًا. وتوصلت الدراسة إلى نتائج مهمة نعرضها الأسبوع المقبل.