«يا تركي.. يا تركي».. لا تتسرع فأنا أقصد شخصا آخر غير ذلك الذي سينصرف إليه ذهنك، أنا أطلقت النداء الذي رفضه «رفاعة الطهطاوي» يوما ما، والذي استوقفني وأنا اقرأ مذكراته، وأتعجب! أكنا مصبوغين إلى هذا الحد بصبغة الأتراك؟ ألهذا الحد كانوا قد طغوا حتى على ملامحنا وأخفوا هويتنا وسمرة النيل في جباهنا، حتى أن هذا المخمور لم يخطئ في هيئة رجل عادي بل كان «رفاعة» المنادى عليه وكان المنادي رجلا غربيا خرج من إحدى الخانات مخمورا في شوارع باريس.. يقتفي أثر الطهطاوي وينادي عليه يا تركي.. لم يلتفت الطهطاوي في بداية الأمر، لكن مع تكرار النداء وقف الطهطاوي ونظر إلى الرجل، وقال له أتقصدني أنا؟ رد عليه المخمور: أيوا أنت يا تركي.. فاتجه «الطهطاوي» نحو الرجل وجذبه إلى متجر على جانب الشارع وأجلسه على كرسي وقال لصاحب المتجر.. خذ هذا الرجل وأعطني بدلا منه حملا من الحبوب.. فقال له صاحب المتجر قولا استوقفني حتى هذا اليوم لأنه ربما لم يتغير رغم تغير السنون.. قال صاحب المتجر: نحن لا نتاجر بالنوع الإنساني كما في بلادكم.. كم هي مؤلمة تلك العبارة وهذي التجارة وموجعة تلك الوصمة.. في الحقيقة كنت أنتظر تصرفا مغايرا للطهطاوي بعد رفضه النداء، سبق ذهني الكلمات فتخيلت أنه بعدما أجلس الرجل سيرد إليه وعيه ويقول له أنا مصري قبل أن تكون أنت ويكون هذا النداء.. مات الطهطاوي وترك لي وجع نداء المخمور وشوك حروف عبارة صاحب المتجر.. جاء من جاء وقيل من العبارات ما قيل، وكبر رفضي لتلك المقولة ولكل شخص يتفاخر بأي جنسية أخرى يحملها، وهذا ليس كما يقولون من «باب الفلس»، ولكنه إيمان وعقيدة ترسخت بداخلي بدءا من شيخ الكتاب مرورا بمدرس التاريخ، كل شيء رسخ بداخلي الإيمان بهذا الوطن، وإن.. انتكس.. وإن ترنح.. وإن مرض.. وإن أُسر.. وإن خُطف.. يبقى فيه ذلك الشعاع الذي لا ينطفئ.. يبقى فيه التاريخ، الذي يعرف من في العالم أنه رفض كل العروض المغرية بأن ينتقل بسجلاته من هنا إلى كل العواصم العالمية، وأصر على الجلوس هنا في تلك العشوائيات والأزقة والحارات، ومن أراد أن يسجل اسمه في صفحات التاريخ يضطر مجبرا إلى الإتيان هنا.. يشاكس من يشاكس.. يفتعل ما يفتعل من أزمات، لكنه في حقيقة الأمر جاء طالبا أن يُخلد في تلك الذاكرة.. لأننا هنا لا ننسى الأسماء ولا المواقف ولا تؤثر في ذاكرتنا عوامل الزمان.. نحن شعب بكل جروحه وفقره ومشاكله لم يفقد طموحه.. وكفانا أنه الآن أن طفل صغيرا قابلني صدفة اليوم صحح نداء المخمور لطهطاوي، وأعاد إلى ذهني الموقف، كانت هناك عائلات تفتخر هنا أنا أصلها تركي.. وفي جلسات السمر يتحاكون بذلك ويسعدون حينما تناديهم «يا تركي»، أحد الأحفاد اليوم رأيته يتشاجر مع رجل في سن والده لأنه نادى عليه وقال له «خُد يا تركي»، كبر الولد فجأة وصار بحجم تاريخ هذا الوطن وقال: «ما تقوليش كده.. شايفني بتكلم إيه وعايش فين واسمي إيه.. أنا مصري.. ولو ناديت عليّ كده تاني هحدفك بالطوب»، ضحكت وفرحت وقلت لذلك الرجل: «كفانا أننا عدنا إلى هيئتنا ولو قابلنا ذاك المخمور الآن لأفاق من هذيانه وقال لي يا مصري، نحن الآن ندافع عن هويتنا.. نحارب الإرهاب في سيناء واللصوص والمزيفين في كل مكان.. نحارب لصوص الهوية.. ندافع هنا عن الوسطية.. لو قابلنا المخمور وصاحب المتجر لعرف أن هناك بقاع ما زالت تتاجر في النوع الإنساني، لكن لسنا نحن ولم نكن يوما ما بل كانوا أولئك السطاة على أمتنا.
آراء حرة
حواديت عيال كبرت "35".. يا تركي.. يا تركي.. أنا مصري
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق