لم يصدمنى خبر رحيل الفنان الرائع جميل راتب، فالرجل أدى رسالته على أكمل وجه، عاش فأبدع وترك الأثر المطلوب منه كفنان يعرف أدواته جيدًا ويفهم دوره فى المجتمع، الجميل راتب صاحب الملامح التى لا يمكن نسيانها وجهه المنحوت بدقة، ومخارج حروفه التى تعتمد على التركيز وتخرج من منطقة معينة من الحنجرة، جميل راتب القادر على التمثيل بعينيه وجسده دون الاعتماد على الحوار المكتوب له ليس ممثلًا عابرًا دخل مجال التمثيل وخرج منه بوفاته، جميل راتب علامة مميزة وفاصلة مهمة فى مجال التمثيل، فإذا كنا حتى الآن نعيش مع أرواح استيفان روستى ومحمود المليجى وتوفيق الدقن رغم رحيلهم فالجميل راتب هو واحد من هذه العائلة التى سوف تعيش بين الناس على الأرض طويلًا، فمن شاهد فيلم «البداية» وراقب أداء جميل راتب سوف يعرف دون شرح أنه أمام ممثل عالمي.
لم يصدمنى خبر رحيل جميل راتب الذى لم يداهن سلطة ولم يجامل مسئولًا ولم يتردد فى المجاهرة بوجهة نظره التى تختلف مع أى نظام سياسى يقف ضد مصالح البسطاء فى هذا الوطن، كنا على سلم دار القضاء العالى ضمن لجنة مناهضة التعذيب والتى كان مقرها حزب التجمع، جاء الحقوقيون والصحفيون والمناضلون ضد فساد واستبداد الشرطة، ذهبنا لنقدم عريضة احتجاج للنائب العام الأسبق المستشار عبدالمجيد محمود، قبل يومين رأى زملاؤنا المخضرمون أن يرافقنا فى ذلك المشوار عدد من الفنانين المرموقين، وبالفعل يبادر صديقنا الكاتب والصحفى محمود حامد وكان يشغل وقتها موقع أمين لجنة الحريات بحزب التجمع يبادر متصلًا تليفونيًا بالرائع جميل راتب، فى الموعد المحدد يصل بخطوته الواثقة، فيتحمس البعض منا بالهتاف «التعذيب فى أقسام الشرطة.. تسقط حكم وتسقط سلطة».
يبتسم راتب ابتسامته المميزة ويقول لمن هتف «لو كنت بصحتى كنت هتفت أحسن منك» نضحك ويميل راتب على محمود حامد ليسأله «إيه بقى الموضوع ماسمعتش كويس فى التليفون لكن سمعت بصعوبة الميعاد والمكان قلت ده لازم موضوع مهم».. نضحك ويتقدم الكبار صفوفنا إلى مكتب النائب العام، ليست واقعة واحدة ونستطيع الاسترسال لنرصد عشرات المواقف الصلبة التى تكشف معادن الرجال، جولاته سيرًا على الأقدام مناصرًا للكاتبة الكبيرة فتحية العسال التى كانت تخوض انتخابات مجلس الشعب 2005 ظهوره المؤثر فى ميدان التحرير فى معظم الوقفات الاحتجاجية التى سبقت يناير وتتويجًا بأيام يناير الكبيرة، حرصه على التعامل حزبيًا كعضو عامل بحزب التجمع وأحد مؤسسيه والتزامه ببرنامجه ولائحته التنظيمية.
قلت إن جميل راتب لم يكن فنانًا عابرًا يسعى إلى سبوبة هنا أو ظهور هناك، ومن المؤكد أن عشرات من النقاد المتخصصين قادرون على تحليل ورصد وقراءة المسيرة الفنية المبهرة لجميل راتب.
لم يصدمنى خبر رحيل جميل راتب ولكن صدمتى جاءت من بعض ردود الفعل بعد إعلان خبر وفاته لذلك فإننى كصحفى ومتابع سوف أتوقف لاعنًا ذلك القطيع الذى تساءل عن ديانة جميل راتب بعد الإعلان عن وفاته، فالراحل الكبير الذى يعتز بكونه مواطنًا مصريًا ويرى أن المواطنة الحقيقية التى لا تُفرق بين الناس على أساس دينهم، هى المؤشر الدال على مصداقية ديانة الناس.
الذين رفضوا الترحم على جميل راتب بعد وفاته لأنه مسيحي، ثم فوجئوا بخروج جثمانه من الجامع الأزهر فسكتوا حائرين، هؤلاء محض إرهابيين صغار ألغوا عقولهم وماتت أرواحهم وهاهم يعيثون فى الأرض فسادًا ومن المؤسف أن نرى الكثير منهم يصعدون للمنابر ويسيطرون على مواقع مؤثرة، الحقيقة هى أن هؤلاء هم أعداء الحياة والتقدم والجمال، هم رعاة القبح هم العطشى للدماء والخراب، جميل راتب المهندم الأنيق المتصالح مع روحه، يعرف أن الدين هو المعاملة وليس لحية أو جلبابا قصيرا؛ لذلك
وداعا أيها الملتزم المتوهج، وألف رحمة ونور عليك رغم أنف المتعصبين.