تدق ساعة الحائط المبهرة، تعلن تمام الرابعة، ساعات نومه نادرة، يرحل عنها بقفزات مهرولة، يرتدى البيجامة المريحة، يجلس فى مكتبه بقدميه الحافية! يلتقط القلم الملون، يعانق الصفحة المترامية! فيزهر لنا أروع الكتابات، أعمق الأفكار، أكثرها نفاذًا إلى العقل والنفس والروح التائهة!
يقول: (الإنسان القارئ لا يهزم! قل لى: بماذا تحلم، أقل لك من أنت! الدهشة هى بداية المعرفة الإنسانية! لا تغضب من أحد، فأنت أسوأ كثيرًا مما تعتقد! نحن جميعًا ندرُس التاريخ، لكننا لا نتعلم منه! يعجبنى الإنسان الذى يجد وسيلة أو طريقًا أو حلًا، إذا اعترضته الصخور لف حولها، إذا استوقفه الجدار تسلقه، إذا اعترضته الرمال ركب جملًا، إذا اعترضه الماء استقل زورقًا، لكنه أبدًا لا يقف! فى حياتنا أحداث صغيرة، لا نلتفت إليها، لا نفهم غور معانيها!).
أجرى معه الكاتب والمؤرخ الإسرائيلى البارز «عاموس إيلون» - المعروف بمعارضته الشديدة للاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية - حديثًا صحفيًا مدهشًا! كان أشبه بمبارزة شرسة بين عقلين! سأله بالإنجليزية، فأجابه بالإنجليزية! سأله بالفرنسية، فأجابه بطلاقة الفرنسية! سأله بالألمانية، فأجابه بسلاسة الألمانية! ثم فاجأه فى النهاية الإجابة بثقة اللغة العبرية! فأدرك «إيلون» أن ما سمعه عنه كان أقل بكثير من الحقيقة!
كان طفلًا نابغة، رقيق، حساس، مهموم! أراد معرفة كل شئ، عشق الحرية! حفظ «القرآن» فى كتًّاب القرية، الذى وصفه بجامعة «السُّربون»! مع آلاف الأبيات من الشعر العربى والأجنبى فى سن 9 سنوات! تفوق طيلة مراحل دراسته حتى حصل على ليسانس الآداب، ثم عمل أستاذًا للفلسفة الحديثة بالجامعة.
آثر التفرغ للكتابة والإبداع الأدبى، فتنقل بين أشهر المؤسسات الصحفية؛ أخبار اليوم، آخر ساعة، الأهرام، الهلال! اقترب من أهم نجوم الفن والسياسية والأدب! كتب فى صحيفة «الشرق الأوسط»، أصدر مجلة «الكواكب»، ترأس تحرير العديد من الصحف والمجلات منها؛ الجيل، هى، آخر ساعة، العروة الوثقى، مايو، كاريكاتير، الكاتب.
أجاد عدة لغات منها؛ الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الروسية ! فاطلع على ثقافات عديدة، ترجم عنها العديد من الأعمال الأدبية والفكرية والمسرحيات، لكنه لم يكن يترجم ما يقرأ، بل يهضم ما يقرأ تمامًا، ثم يبدأ فى كتابة «المقال» بعقل المفكر والفيلسوف، فيضيف إليه رؤى بديعة جديدة.
اختاره الرئيس «السادات» صديقًا مقربًا، كلفه بتأسيس مجلة أكتوبر عام 1976، ليكون رئيسًا لتحريرها، ثم رئيسًا لمجلس إدارة «دار المعارف»، منحه لقب «رجل المهمات الصعبة»، رافقه فى زيارته للقدس عام 1977، فظلت فى خزانته أسرار ووثائق وتسجيلات لا تقدر بثمن! لكنه لم يكشف عنها طيلة حياته.
قاربت مؤلفاته 200 كتاب، عكست رؤية عميقة للكون والإنسان والحياة منها؛ فى صالون العقاد كانت لنا أيام، الذين هبطوا من السماء، الذين عادوا إلى السماء، لعنة الفراعنة، عاشوا فى حياتى، دعوة للابتسام، أرواح وأشباح، مصباح لكل إنسان، ساعات بلا عقارب، أوراق على شجر، مذكرات شاب غاضب، مذكرات شابة غاضبة، وجع فى قلب إسرائيل، وداعًا أيها الملل.
سافر إلى العديد من بلدان العالم، ألف خلالها ما جعله أحد رواد «أدب الرحلات»، فتصدرت كتاباته أعلى المبيعات منها؛ حول العالم فى 200 يوم، بلاد الله لخلق الله، غريب فى بلاد غريبة، أنت فى اليابان، أعجب الرحلات فى التاريخ! تحولت العديد من مؤلفاته إلى أعمال سينمائية ومسرحية وتليفزيونية شهيرة منها؛ حلمك يا شيخ علام، من الذى لا يحب فاطمة، عريس فاطمة، غاضبون وغاضبات، هى وغيرها.
تفرغ فى أواخر حياته لكتابة عموده اليومى فى جريدة «الشرق الأوسط»، ومقاله اليومى الأكثر قراءة «مواقف» بجريدة الأهرام، الذى استطاع ببساطة أسلوبه أن يصل بأعمق الأفكار وأكثرها تعقيدًا إلى البسطاء! فانجذب له ملايين القراء فى مصر والوطن العربى، أقبلوا على كتاباته، التى حققت أرقام مبيعات قياسية!
رغم سخريته من قصص الحب والمرأة، ربطته قصة حب أبدية بزوجته السيدة «رجاء منصور» حتى وفاته بمستشفى الصفا، أثناء كتابة مذكراته، عن عمر ناهز 87 عامًا، بعد أن تدهورت حالته الصحية، إثر إصابته بالتهاب رئوى حاد!
إنه فيلسوف البسطاء، أو أديب الأمراء، أو فاكهة الصحافة المصرية، أو الموسوعة البشرية، أو الظاهرة الفكرية الفريدة، التى شكلت وجدان وثقافة أجيال عديدة فى مصر والعالم العربى! إنه الأديب والمفكر والفنان والفيلسوف والكاتب الصحفى الراحل «أنيس منصور».