تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
فى هذا المقال أختتم سلسلة مقالات «تطور مقدمة القصيدة العربية» بالحديث عنها فى الشعر المعاصر، بعد تناولها سابقًا عند شعراء العصر الجاهلى والشعراء الصعاليك والشاعر أبى نواس.
رابعًا: استبدال المعاناة الإبداعية بالمعاناة الطللية فى الشعر المعاصر:
لم تفقد المقدمة دورها التقليدى فى العصر الحديث، من حيث كونها قناعًا رمزيًا يلوذ به الشاعر، صحيح أن جَمّ وفير من القصائد لم تعد حريصة على الاستهلال بما كانت تُستهلّ به القصيدة القديمة من عناصر طللية أو غزلية، فالشاعر الحديث أضحى يتعامل مع التجربة الشعرية دون وسائط، باعتبار أن هذه التجربة أصبحت ذاتية فى مجملها.
بيد أن ذلك لم يصادر على اجتهادات الشعراء فى إعادة إحياء المقدمة، بما يحقق دلالتها التراثية الرمزية من جانب، وبما يُؤصِّل وظيفتها العضوية فى الكل الشعرى من جانب آخر، فالشاعر الحديث أضحى يتدرج إلى عالم التجربة الشعرية عبر افتتاحية تستبدل المعاناة الإبداعية بالمعاناة الغزلية والطللية.
ولعل ما نلحظه فى تراث الشاعر «محمود حسن إسماعيل»، خير شاهد على ما نحن بصدده، يقول فى مطلع قصيدته «الغصن اليتيم»:
أَغْفَى ربابُك لا شدوٌ ولا طربُ
* * وجفّ حانُك لا كأسٌ ولا عنبُ
وزفّت الريح، هل زفّ النشيد لها
* * أم ظلَّ سأمانَ هذا اليأسُ التَعِب
هذا الذى اهتزت الدنيا، وعازفُه
* * ساهٍ على ضفّة الأحلام مكتئب
والذى يلفت الانتباه فى هذا المفتتح، تلك البدائل التشكيلية التى صِيغ منها، فالشاعر يرصد تجربته مع المعاناة الشعرية وتأبيّها وصدّها عنه، وهذا عوضًا عمَّا كان يقوم به الشاعر القديم من رصد نماذج الجمال الأنثوى وامتناعها عزوفًا أو هجرًا.
لقد أصبحت المقدمة فى القصيدة الحديثة ضربًا من الرّقى الإيحائية، يُستنزل به الفيض الفنى، وهذا هو سر التلازم بين الشكوى من المعاناة الإبداعية، والشكوى من نضوب ينابيع الوحى وجفاف مصادر الإلهام فى المقدمات الحديثة.
بكى عليَّ الصدَى واللحن والوترُ
* * ولم أزلْ لعذاب الشعر أنْتظرُ
أوْمتْ إليّ سواقيه، فقلتُ لها
* * مات الربيعُ، ومات العِطْر والزَّهرُ
دُورى على نوْحك المهجور فى أُفق
* * ناح التراب عليه واشتكى الحجرُ
ولا تظنى صلاة الوحى آتيةٌ
* * إن المصلّين بالإلهام قد عبروا
وهذا المطلع ـ الذى استهلّ به محمود حسن إسماعيل قصيدة «اللاجئون» ـ يصور لنا مدى المعاناة الإبداعية، فالشاعر لم يقطع إلى تجربته دربًا ممهدًا، ولم يستشرفها إلا بعد أن اصطلى بنار الخذلان وألم المحاولة.
إن الشاعر حين اتخذ من بكاء الصدى واللحن والوتر، وموت الربيع والعطر والزهر، ونوح الربيع وشكوى الحجر، ومضات تصويرية تشى بعذاب الشعر ولوعة المعاناة فى انتظاره، لم يتحرَّج أن يضيف إلى ذلك قالب الرحلة الذى كان فى الشعر القديم:
فى رحلة لا تعى الأيام وِجْهتها
* * ولا يتاح لها حلٌّ ولا سفرُ
ولا ديارٌ، ولا أهل، ولا سكن
* * ولا حياة، ولا عيش، ولا عمرُ
إنها رحلة فى المطلق والمجهول، لا بداية لها ولا نهاية، ولا حلّ فيها ولا سفر، ولا ديار فيها ولا سكن؛ لأنها رحلة المبدع وراء الحقيقة الفنية الهاربة.
إن هذه البدائل التصويرية التى استقاها الشاعر من عالم المغامرة الشعرية، قد أدت إلى إثقال المقدمة بدلالة إضافية إيحائية، هذه الدلالة لا تقتصر فقط على تقرير مكابدات الشاعر ووصفها، ولكنها تتجاوز ذلك، إذ تبدو وكأنها صلاة فنية أو استمطار للوحى الشعري، وهذا يذكرنا أيام أن كان الشعراء يعتقدون أن لفنِّهم صلة وثيقة بالإلهام الإلهي، وكان رمز هذا الإلهام ما تفصح عنه علاقة الشعراء بآلهة الفنون، أو بقرناء لهم من الجن والشياطين.
وكثيرًا ما يتواكب رصد المعاناة الإبداعية فى المقدمات الحديثة مع رصد الشاعر لمخاطر الرحلة وأهوال الطريق، فقد كانت الرحلة موروثًا افتتاحيًا تعددت طرائق الشعراء فى إعادة توظيفه فنيًا، ففى رحلة «الملاح التائه» لعليّ محمود طه، نجد أن الشاعر اعتمد على بدائل تصويرية، ينهض فيها البحر بما كانت تنهض به الصحراء، وتمثِّل فيه السفينة ما كانت تمثله الناقة، ويقوم فيها الملاح بما كان يقوم به حادى الرَّكْب:
أيها الملاّح قمْ واطوِ الشـراعا
* * لِمَ نطوى لُـجَّة الليل سِراعا
جدِّف الآن بنا فى هِينة
* * وِجهة الشاطئ سيْرًا واتّباعا
فغدًا يا صاحبى تأخذنا
* * موْجة الأيام قذْفًا واندفاعا
عبثًا تقْفو خُطى الماضى الذي
* * خِلْتَ أن البحر وارَاه ابتلاعا
على هذا النحو كان توظيف الشاعر المعاصر للمقدمة، فهو يَلِج إلى تجربته الشعرية عبر مقدمة يستدعى بها خواطره وصوره، وكثيرًا ما قرن الشاعر المعاصر بين الرحلة والمعاناة الإبداعية، هذه الرحلة التى تذكرنا بما كان يفعله الشاعر القديم من وصف لأهوال رحلته، مع فارق أن رحلة الشاعر المعاصر هى رحلة المبدع وراء الحقيقة الفنية الهاربة.
[للمزيد حول موضوع هذه المقالة راجع: واقع القصيدة العربية، د. محمد فتوح أحمد، دار الهاني، القاهرة، 2005، ص86، وما بعدها].