المشكلة التى تعالجها رواية «الشحاذ» لنجيب محفوظ هى البحث عن مغزى الحياة ومعناها، وذلك من خلال استعراض وقائع حياة بطل الرواية «عمر الحمزاوي». إنها رواية فلسفية بامتياز، تندرج ضمن الفلسفات الوجودية التى عالجت موضوع «الملل»، وإن كان نجيب محفوظ قد أطلق عليه لفظًا بديلًا هو «الضجر»، فهو يقول على لسان بطل روايته «ما أفظع الضجر» (ص 15)، وهو يرى أن «الضجر» هو «الحموضة التى تفسد العواطف». (ص 15). والضجر فى اللغة يجمع بين الضيق والملل والسأم والقلق، وكلها مفاهيم ومصطلحات مألوفة فى الفلسفة الوجودية. يقول نجيب محفوظ فى صفحة 20 من «الشحاذ» على لسان أحد أبطال روايته:
- ضجر يضجر ضجرًا، فهو ضجر، وهى ضجرة، والجميع ضجرون وضجرات.
تبدأ وقائع الرواية بزيارة «عمر الحمزاوي» لعيادة أحد الأطباء، وكان زميل دراسة قديم عارضًا حالته، ذاكرًا للطبيب أنه يشعر بجمود غريب، فقد ماتت رغبته فى العمل، هو ليس تعبًا بالمعنى المألوف، يُخيل إليه أنه مازال قادرًا على العمل، ولكنه لا يرغب فيه على الإطلاق.
أكد له الطبيب بعد أن فرغ من الكشف عليه أنه ليس مريضًا بشيء، ونصحه بالتخلص من الرتابة والدسم الجاسمين على نَفَسَه وجسمه، نصحه بالرجيم فى الأكل، والرياضة وتغيير الجو. (ص ص 8 – 9)
كانت حياة الأستاذ «عمر الحمزاوي» تسير على ما يرام، فهو محام كبير فى الخامسة والأربعين، ناجح ومشهور، وثري، ورب أسرة موفق. إلى أن جاءه يومًا أحد المتنازعين على قضية أرض، وقال الرجل مخاطبًا «عمر الحمزاوي»:
- إن أملى كبير فى كسب القضية.
فرد المحامى الكبير:
- وأنا كذلك.
فضحك الزبون بسرور بيّن.
يقول «عمر الحمزاوي»: «وإذا بى أشعر بغيظ لا تفسير له، وقلت له: (تصور أن تكسب القضية اليوم وتمتلك الأرض، ثم تستولى الحكومة عليها غدًا). (ص 45)
فهز الرجل رأسه فى استهانة، وقال:
(المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها). (ص 46)
تأثر «عمر الحمزاوي» بكلام الرجل، وأصاب رأسه دوار مفاجئ، على الرغم من أن هذا الكلام مألوف ومعتاد، ويتردد يوميًا على مسامع كثير من الناس دون أن يُحْدِث أثرًا مزلزلًا على كل من يسمعه. إن الأشياء والأحداث والوقائع ليس لها الأثر نفسه لدى كل الناس، قد تسمع أنت عبارة أو ترى واقعة تحفر فى ذاكرتك أثرًا لا ينمحى طوال حياتك، فى حين أن شخصًا آخر سمع ما سمعته أو شاهد ما شاهدته، لكنه يمر عليه ذلك مرور الكرام دون أن يترك لديه أى أثر.
بدأ «الضجر» يدب فى أوصال حياة بطل الرواية، وانهمرت على رأسه بغزارة الأسئلة الميتافيزيقية (المتعلقة بمعنى الحياة وحقيقة الموت ووجود الله... إلخ)، وشرع يطرحها على نفسه، وعلى غيره بمناسبة وبغير مناسبة. ضاق بالدنيا، بالناس، بالأسرة نفسها... لا يريد شيئًا سوى أن «يتسول» إجابة أو إجابات شافية عن تساؤلاته!!
إنه «الضجر».. قتل «الضجر» كل شيء، وانهارت قوائم الوجود بفعل بضعة أسئلة. (ص 90) يقول «عمر الحمزاوي» مناجيًا نفسه: «اللعنة، إن فى الجو شيئًا خطيرًا، يرعبنى إحساس داخلى بأن بناءً قائمًا سيتهدم». (ص 22)
الحالة تسوء وتستفحل. «الضجر» يجثم على مفاصل حياة «عمر» بطل الرواية:
«ليس العمل وحده الذى أصبحت أكرهه، ولكن الداء يلتهم أشياء أخرى أعز علينا من العمل. زوجتى (زينب) على سبيل المثال».
«البيت نفسه لم يعد بالمأوى المحبوب». (ص 53)
قال وهو يبتسم ابتسامة مريرة:
«لعله الكون - بدورانه الدائم على وتيرة واحدة - هو المسئول الأول عن هذا (الضجر)». (ص ص 53 - 54)
بالفعل هجر «عمر» بيته، وترك المنزل لزوجته وابنتيه، وأسس منزلًا أنيقًا لعشيقته «وردة» الراقصة بملهى «كباريه». وبقى معها سعيدًا لفترة من الزمن. هجرت «وردة» العمل بالملهى، فلجأ «مسيو يازبك» صاحب الملهى إلى «عمر»، راجيًا منه إعادة «وردة» إلى العمل بالملهى.
فطرح «عمر» فجأة على «مسيو يازبك» بضع أسئلة عبثية:
- خبرنى يا مسيو يازبك ماذا تعنى لك الحياة؟
- ................................
- لكنك تعيش حياتك ثم يأخذها الله؟!
- .........................
- هل تؤمن بالله؟
- ......................
- إذن فقل لى ما هو الله؟
حاول «مسيو يازبك» التملص من الإجابة، فطرح على عمر سؤالًا:
- هل يطول غرامك بوردة؟
أجابه عمر:
- أعدك إذا أخبرتنى ما هو الله أن أتركها لك فى الحال. (ص ص 92 – 93)
تنهش عقله أسئلة لا يجد لها جوابًا، يطرحها على نفسه وعلى غيره، أفرزها «الضجر» الناجم عن الخواء.
جرف «الضجر» كإعصار جامح علاقة عمر بوردة وهدمها، وعلى أنقاضها أقام علاقته بـ«مارجريت» وهى مطربة بملهى ليلي، وانتقل «عمر» من «مارجريت» إلى «منى»، و«منى» و«مارجريت» هما صورتان من «وردة»، لكنه لم يجد فى كل هذه التجارب سوى اليأس والفراغ، وعاد إلى بيته من جديد، يائسًا محطمًا ووجد أن صديقه وزميله الاشتراكى القديم «عثمان خليل» قد خرج من السجن، وحاول «عثمان» أن يحل أزمة صديقه، ولكنه فشل، وانتهى الأمر بعمر إلى أن يقيم بمنزل بين الحقول، وفى حالة أشبه بالجنون، حيث يعيش فريسة لأحلام مفزعة، ورؤى يختلط فيها الخيال بالواقع.
وتنتهى الرواية بأن يجد رجال البوليس «عثمان» مع «عمر» ويقبضون عليهما معًا، ويحملانهما فى عربة واحدة، و«عمر» غائب عن العالَم غارق فى أحلامه ودمائه بعد أن اخترقت قدمه رصاصة من رجال الشرطة. (رجاء النقاش، فى حب نجيب محفوظ، دار الشروق، القاهرة، 1995، ص 129)
والسؤال الآن هل تُعَد هذه الرواية غارقة فى اليأس المطلق والظلام الدامس؟
إن رواية «الشحاذ» لنجيب محفوظ هى محاولة اكتشاف هذا العالَم، إن الفلسفة الأساسية عند بطل «الشحاذ» هى البحث عن مغزى الحياة ومعناها، إنها البحث عن المجهول والانتصار عليه وليس الاستسلام له. إنها تتضمن دعوة للإنسان العربى فى مصر وغيرها لكى يقتحم الخطر، ولا يقف عند الحدود الناعمة الساذجة للحياة. (رجاء النقاش، فى حب نجيب محفوظ، ص ص 134 - 135).