تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
فى ليلة على شاطئ المعمورة حينما كانت منبر الفكر، وبلاج الساسة، هناك لا توجد موانع فى أى أطروحة للقضايا مهما كانت حساسة، عقول وزنها ذهبًا، عنوانها الوطن بكل ما يحدث فيه من انتصار أو هزيمة، من سعادة أو تعاسة، علوًا نفاخر به أجيالنا أو نواجه به الانتكاسة.
على شاطئ المعمورة كانت منابر تتحرك وأعضاء يتحركون واعلام ونجوم ومفكرين وساسة بأسرهم يتواجدون ويتسامرون كل ليلة يتلاقون وناظر المدرسة يحاسب الحاضرون لأن هناك قواعد مقدمتها مادة المواظبة والسلوك تحكم العطاء فليست مجرد مسامر لكنهم من أعماقهم يتناقشون وأرقى العبارات وأحدث النظريات، فهى ليست مجرد استعراض لأزياء المفكرين.
فمن نجم هذه الجلسات أستاذنا الكبير موسى صبرى التى كلما أمر عليها على مجموعة بغداد (المعمورية) أشعر بالحزن على هذا (المقصد السياسى والفكرى) يحتشد فيه الكاتب الكبير المبدع عبدالرحمن الشرقاوى ويوسف إدريس وأحمد رجب والصحفى حمدى فؤاد الذى يلقبونه بالسفير وزوجته هدى توفيق التى كانوا يلقبونها صاحبة السعادة فوق العادة، وأحيانًا النجم كمال الملاخ وشيخ الإذاعيين فهمى عمر، ونقيب المحامين أحمد الخواجة وحرمه التى يناديها الجميع يا سيادة (النقيبة).. ومن الساسة الأستاذ محمود أبووافية، وانضم أخيرًا لهم الدكتور سعد الخوالقة، ومن الوزراء المحافظين السابقين الدكتور شفيق الخشن وحرمه السيدة طاهرة المجدوى، ومبارك الرفاعى، محافظ الإسماعيلية الأسبق، وفى إحدى الليالى التى كان لى الشرف حضورها شارك فيها المفكر الكبير الدكتور ميلاد حنا وهو توأم روحى للأستاذ موسى صبرى، وهنا لا بد من تحية واجبة لروح السيدة الفاضلة أنجيل هانم رياض حرم الدكتور ميلاد حنا التى كانت تضفى على هذه الأمسيات من عطرها وكرامة ضيافتها وأنقى عباراتها فى تحريك منظومة الجلسة وتعطى التعليمات إلى وصيفتها الأمينة على التنفيذ، وفى تلك الليلة التى ذكرت فيها تلك الأسماء أطلق صاروخًا سياسيًا فقال إن وجود الأقباط على الساحة الوطنية هو «وجود ثقافى» وليس وجودًا طائفيًا.. ويقول: إن استبعاد الترشيحات للأقباط تحديدًا من الحزب الوطنى هو موقف (انتهازى) وليس موقفًا سياسيًا... فإن هناك دوائر فى مجلس الأمة فازت منها عناصر ضيئلة بمقاعد بالانتخاب وهذا استبعاد ولم نسقط الأسماء سهوًا.
ويقول ميلاد حنا صراحة إن هناك فى مصر (دستورًا مكتوبًا) يقول المساواة، وهناك دستور غير مكتوب يقول عكس ذلك.. ويؤكد أن التركيبة المصرية تستحق وقفة، لأنه كما يقول ما يشغلنى هو ثقافة مصر.. وبوجهة نظر مصر لها ساقان هما إسلام مصرى ومسيحية مصرية، ويشير إلى ما ذكره فى كتاب الأعمدة السبعة للشخصية المصرية، ويؤكد دائمًا المصرى من ناحية الشكل سنى الوجه، شيعى الدماغ، قبطى القلب، فرعونى العظام.
ويقول وقتها إن الحزب الوطنى يحكم منذ أكثر من خمسة عشر عامًا ألا يمكن أن يحمل على كتفيه عشرين قبطيًا، يعنى يقوم بتربيتهم بوصفهم كوادر، ويقدمهم وزير الإعلام وقتها إلى وسائل الإعلام لكى يمهد الطريق أمامهم ولانترك تأثيرها على الأقباط، وأنا لا يهمنى تمثيل الأقباط فى المجالس أو الوظائف لكن يهمنى هو مستقبل مصر فوجودهم كمجموعة إنسانية تحمل ثقافة التعددية، وهى مفتاح لدخول بوابة المجتمع الخلاق الحر، ويقول ميلاد حنا الغريب إن هناك تفاعل التدين وميزة مصر ترجع إلى التعددية الدينية وخبرة الحياة المشتركة بين المسلمين والأقباط دون تدخل من المحاكم بينهما، ورغم ذلك فإن التعددية الدينية سبقت التعددية السياسية، هناك صلة رحم بين المسلمين والأقباط.
وبهذه المناسبة قال الدكتور ميلاد على مثال موجود فى (دمياط/طنطا)، وهى حلاوة المولد فإن فكرة العروسة فى المولد النبوى الشريف تعود إلى العروسة عند القدماء المصريين ومنها انتقلت إلى المسيحية، إذ إن العروسة عند المسيحيين هى العذراء مريم، ورغم أن الإسلام يحرم التماثيل فإن المسلمين يصنعون عروسة من الحلوى فى المولد النبوى، وكما يقول هى ظاهرة مصرية وفكرة الجندى الذى يمتطى حصانًا هو «مارجرجس» الموالد فى مصر متشابهة وتعود للفراعنة فقد كانت هناك موالد «للأهلة»، وانتقلت ذاتها إلى المسلمين.
وطرح الجالسون سؤالًا لهذا الرجل المهموم بالشأن المصرى بكل جوانبها الهندسية كأستاذ له مكانته، وجانبها الثقافى والسياسى وفى مقدمة كل هذا التسلح بالقلم والفكر ومقدرة على أسلوب الخطاب الجماهيرى يضاف لرصيده بالعقيدة اليسارية ما أكسبه مصداقية على مستوى العالم العربى.
كان السؤال إذا صدر قرار (الرئيس السادات وقتها) بتعيينك عضوًا ضمن العشرة المعينين بمجلس الشعب، وهل يمكن أن يعرض عليك منصبًا وزاريًا.
رد وبكل حماسة المعهودة فيه إذا تعينت كقبطى فإننى أرفض هذا التعيين فأنا لا لن أكون (ديكورًا أو أشارك فى لعبة العرائس فى الليلة الكبيرة) نعم إننى طموح لكننى وأعتبر هذا غرورًا أستحق أن أكون رئيسًا لمجلس الشعب.
لم يسلم الدكتور ميلاد حنا من أجهزة السادات وأدرجت اسمه فى قوائم المعتقلين فى 5 سبتمبر، وقد غضب أستاذنا الكبير موسى صبرى من هذا التصرف وأسقط جميع موانع الصداقة مع الرئيس السادات وشرح له ظروف صحية ووطنيًا لأنه أتضح أن القوائم لم تعرض على الرئيس السادات خاصة أن هذا الاعتقال أحدث ضجة كبرى فى العالم العربى.. والغريب أنه قبل عضوية مجلس الشعب ورئاسة لجنة الإسكان ورغم أن هذه الأسئلة كانت تلح على فى مقابلاته أو مكالماته لكن طبيعة المقابلات حالت دون ذلك رغم أننى التقيت به فى مقابلة مطولة عام 1989م فى فندق فلسطين عندما وجه الدكتور أحمد فتحى سرور، وزير التعليم، وقتها لقاءً خاصًا حول السلامة الإنشائية لمشروع مكتبة الإسكندرية ثم انفردنا بلقاء مصغر نظمه العالم الكبير الدكتور عبدالله عبدالعزيز أستاذنا المرموق بجامعة القاهرة وهو استشارى شاطئ (مارينا)، والعالم وأستاذ الأساتذة كمال أبوالسعيد والثالث الدكتور ميلاد حنا واستغرق الحديث عن المكتبة ما عداه من أحاديث.
لكن المهم فى هذه الروايات أن جهود الشخصية فى مقام ميلاد حنا أثمرت بصدور قرار الرئيس عبدالفتاح السيسى بتعيين المهندسة منال عوض ميخائيل أو مصرية فى دمياط، وزميلها كمال جاد محافظ للدقهلية، وهما متجاورتان بل الأصل الأسرى لهم تكاد تكون واحدة، أن تذويب هذا الحاجز الثقافى فلم تعد القيادة فى آلية أدائها يهمها بالدرجة الأولى الدولة العصرية الراسخة، لا مجال لكسب أصوات أو تصبح الأحزاب مجرد بوتيكات لبيع الأديان السماوية حاشا لله أو طرح شعارات أكثر ثورية التى تآكلت بفعل الزمن.
ومن حُسن دمياط أن بين رموزها الفكرية الدكتور محمد حسن الزيات والعميد الأسطورى كامل الحارونى والعميد الأسطورى لآداب الأسكندرية جمال الدين الشيال والموسوعة الإنسانية على سامى النشار وطاهر أبوفاشا صاحب ألف ليلة وليلة ومصطفى أمين وعلى أمين وجلال الحمامصى، والدقهلية التى أنتجت مولانا الشيخ محمد متولى الشعراوى وسيدة الغناء العربى أم كلثوم وأنيس منصور والدكتور محمد غنيم والزعيم عادل إمام.