عمتى التى تتذكرها والدتى إذا ما حكت عنها فى زمانها بأنها: الجميلة بجسدها الفاره، عرفت الحياة ودخلت الدنيا مرات ست، كانوا أبناء عمومة غير واحد، وبطولها وامتلاء جسدها عاركت هذه الحياة، حراكا ودبيبا، وبشخصيتها النافذة القوية حين كان على إخوتها الاغتراب للدراسة والعمل فى طرابلس وبنغازي، فرعت شئون أسرتها نخلا وشياها، عدا عملها داخل البيت برعاية والدتها، وولديها عبد الرحمن، ويحيى الذى فقدته إذ أصيب بشلل الأطفال، وأعيتها الحيلة لعلاجه حين هجرها الزوج، ووالدتى أيضا التى كانت آنذاك زوجة الشقيق المُرتحل وذات الأثنى عشر عاما، وأنها أيام شبابها أيضا كانت الطباخة الماهرة تتفنن فى صنع «الدويدة» عجينة، وتجفيفا بتشميسها وتحميصها (ما يشبه المكرونة حاليا)، وإعداد إيدامها ما جعل نساء حيها يطلبنها خصيصا فى مناسباتهن، ليحظين بوجبة لذيذة مُشتهاة من معازيمهن، يومها كانت صحون الطعام تتبادل بين الجيران بما يتسنى منحه ودون حرج، بل كثيرا ما يكون عطاءً فى محله، إذ ظروف الحياة البسيطة لم تكن لتوفر وجبة الطعام اليومية.
فى طفولتنا سبعينيات القرن الماضى شكلت جزءًا من ذاكرتنا الحميمة، حين كُنا نزورها فى عطلتنا الصيفية فى بيت العائلة القديم الذى لم تدخلهُ الإضاءة حينها، ولا مواسير المياه، كانت تفرح بنا وتدللنا، تأخذنا معها فى مشاويرها، والتى كلها سعي، وتعاود بنا إلى البيت تجهز سعفها الذى يجهدها اختياره، وتجفيفه، وتشليخه، وصباغته ألوانا جميلة أحمر، وأخضر، وأزرق، كما تنتقى خيوط الصوف المصبوغة الجيدة تزين بها ما تصنعه من أطباق مختلفة الأحجام، والتى تزين مطبخنا اليوم، وآخر النهار وعلى ضوء الفنار تجلس إلى رحاها لنسمع شجوها وأنينها الموازى لحشرجة الرحى، وقتها كنا نخال عمتى تبكى تعب يومها، ونسأل سؤال الطفولة فلا نرى دموعها، ولا دموع رفيقتها التى تُعينها وتردد معها وأحيانا ترد على أغنيتها.
عمتى راوية للشعر وحافظة، وإن خانتها ذاكرتها أحيانا فى إكمال نص ما تترنم به، حين أعلمتها بمشروعى لتسجيل خراف براك من نسائها، قطعت شوارع براك بأحيائها الأربعة ودخلت بيوتا ربما لم تعرف أهلها مُسبقا تسألهن مساعدتي، واستحضار تاريخ براك، وسير رجالها، وحكاياتها، وهى من رتبت مواعيدي، وأخجلتنى أحيانا حتى أؤنب نفسى حين تصل قبلى وهى من تسير راجلة إلى مكان الجمع الذى أصله بالسيارة!، وإذا ما تقاعستُ وتأخرتُ المجيء من طرابلس لانشغالى الوظيفى تتولى باتصالاتها تذكيرى بمسؤليتى وواجبي، وأن هناك من ينتظرننى ولديهن مخزون مما أرغب، وحين أصل تستقبلنى ببيت خالتى بجدول مواعيد لبيوت سأزور أغلبها مساءً، وعقب المسلسلات المكسيكية المدبلجة التى شغلت البيوت آنذاك، وتُعلق بأن ذلك فى صالحى لأن الخراف وقته المساء.
سأدين لها ولنساء براك بتلك الثقة وبراح الاطمئنان، وأنا ألج وسط بيوتهن لأول مرة، ورحابة صدورهن وكرمهن الفياض، والأوقات التى استمتعت فيها بأصواتهن الراوية والمؤدية بحرفية وكأنى بهن ممثلات فى مسرح القص الشعبي، غمرننى بدفئهن، وطيبة قلوبهن فى جلسات التسجيل وأجوائها التى منحتنى مادة بحثى التى غامرت بتبنى موضوعها وخطتها قبل أن أملك نصا واحدا، ولعلى كنت تلميذتهن وأنا أشهد خُلقهن المتسامح، وإيثارهن ووفاءهن ودأبهن فى السؤال عن أحوال بعضهن البعض، وعنى فإلى اليوم وسلامهن يصلني، ويطلبن عودتى فما زلن يحملن أشعارَا وسيراَ وأغانى واحتهن.
وأسأل عن عمتى التى تشغلنى إذا ما هاتفتها، فتخبرنى بأن ساقيها أعجزتاها عن الوصول إلى واحتها التى تحب، لكنها ستساعدنى إذا ما قررت الذهاب إليهن، فأعدها خيرا، وأنى بانتظار مجيئها المعتاد إلى طرابلس أوائل فصل الصيف لمراجعة شئونها الصحية، والجلوس إلى أحفادها، وزوجات وأبناء أشقائها.
وسأعذُرها إذا ما جاءت إلينا لتعُد أيامها وأسابيعها، ويعاودها الحنين وتلح فى الأًوبة إلى ديارها براك وأهلها، ونتشاكل لإرغامها على البقاء ومُؤانستنا فتذكرنا بوصية والدى- رحمه الله- نفيسة شقيقتنا الكبرى سيدة نفسها، لا تضغطوا عليها، واتركوها لما تختار، صنعت حياتنا بحكمتها وشجاعتها وأنفتها لنكون كما نريد، فدعوها لما تريد وتحب.