أقتبس بهذا العنوان اسم الفيلم الرائع الذى أخرجه الراحل يوسف شاهين، والذى يدعونا فيه لاحترام الآخر والانفتاح عليه والتعامل معه، فالآخر هو أنت دون أن تدرى، لأنك الآخر بالنسبة لغيرك، فإذا رفضته فمن الطبيعى أن يرفضك، وبذا تنشأ الكراهية ثم تترعرع داخل القلوب والعقول لتنتهى بالقتال والحروب، والتاريخ يقول إن أكثر من عشرين مليونًا ماتوا فى الحرب العالمية الأولى، بينما وصل العدد إلى ستين مليونًا فى الحرب العالمية الثانية، فى حين قتل المغول فى حروبهم ما يقرب من خمسين مليونًا، وفى الحرب الأهلية الصينية مات ثمانية ملايين إنسان، وقد حصد الصراع العربى الإسرائيلى ما يقرب من مائة وعشرين ألف نفس، بينما مات فى الحرب الأهلية اللبنانية حوالى مائة وخمسين ألفًا، وفى حرب تحرير الجزائر مات أكثر من مليون شهيد، وأثناء الفتوحات الإسلامية مات مايقرب من خمسة ملايين، وكثيرة هى الأرقام وموجعة ومفزعة، فقد دفع هؤلاء جميعًا أرواحهم ثمنًا لفكرة قد تكون صحيحة، وقد تكون خاطئة، وقد يتراجع عنها أصحابها فى يوم ما، فالرومان الذين توعدوا السيد المسيح واتباعه وظلوا يحاربون المسيحية ما يزيد على ثلاثمائة سنة، عذبوا فيها الآلآف وقتلوا الملايين بالذبح والشنق والحرق، هؤلاء الرومان أنفسهم قد اعتنقوا المسيحية فيما بعد، وصاروا يدافعون عنها ويحاربون من أجلها، وتنازل القيصر عن جزء من أرض روما لإقامة دولة مستقلة تمثل القيادة الروحية لمسيحى العالم وهى «الفاتيكان» ونفس الشىء تقريبًا حدث للتتار، الذين حاربوا الدولة الإسلامية وقتلوا الملايين واحتلوا بغداد، وسحلوا الخليفة العباسى ثم اعتنقوا فيما بعد الإسلام وندموا على ما فعلوه بحق الملايين، ويحضرنى الآن مثال عمرو بن العاص الذى حارب المسلمين مع قريش وكان من قادة موقعة «أحد» ثم اعتنق الإسلام متراجعًا عن الفكرة التى حارب من أجلها، إذن فالفكرة التى دعتك للقتال قد تكتشف خطأها، أو ربما تكتشف أنها لا تدعوك للقتال أصلًا، وهذا ما حدث لقادة الجماعة الإسلامية التى قتلت الرئيس السادات، فبعد أكثر من خمس عشرة سنة مما فعلوه راجعوا أنفسهم وأعلنوا ندمهم على ما اقترفته أيديهم بحق السادات، وبحق أكثر من مائة شهيد من رجال الشرطة الذين قتلوهم فى أحداث مديرية أمن أسيوط فى 1981، والغريب أن عاصم عبدالماجد كان من هؤلاء الذين تراجعوا عن فكرة استخدام العنف، ولكنه عاد وتراجع مرة أخرى عما توصل إليه مع زملائه فى 1997 ليرتد إلى معسكر الدموية معلنًا تأييده لاستخدام العنف وقتال أبناء الشعب المصرى، وذلك عقب سقوط الإخوان فى 2013، ومن العجيب حقًا أن عاصم عبدالماجد هذا وغيره من أعضاء الجماعة الإسلامية والجهاد كانوا يرفضون الصلاة فى السجون وراء «إخوانى»، وذلك لأنهم يرون الإخوان جزءا من النظام، لقبولهم دخول الانتخابات والمشاركة السياسية، ولكن وبمجرد وصول الإخوان إلى الحكم فى 2012، تحول هؤلاء إلى مؤيدين لهم، بل لم يقف الأمر عند التأييد فقط بل وصل إلى حد الدعوة للقتال من أجلهم، ونفس الأمر بالنسبة لأعضاء الدعوة السلفية الذين كانوا يرفضون فكر الإخوان أيضًا ويقولون إن «السلفى» لا يجب أن يعمل بالسياسة، فإذا بهم يتراجعون فجأة عما دعوا إليه وذلك بعد 2011 وكونوا حزبًا سياسيًا بغية الوصول إلى الحكم، وهذه الأمثلة كلها تدل على أن الأفكار ذات أجنحة تطير هنا وهناك، وتتغير حين ترى فى أرض الآخر ما لم تكن تراه فى أرضها، والتحضر يبدأ بإقتناعك أن العقل لا يجب أن يتحجر، وأنك يجب أن تؤمن بحرية الآخر تماما مثلما يجب أن يؤمن الآخر بحريتك، وألا تفرض وصاية عليه أو يفرض وصاية عليك، وكلما اطلع الإنسان على أدبيات الآخرين اتسع أفقه وأصبح أكثر ثقافة ووعيا، ولا شك أن النهضة الثقافية فى مصر، والتى حدثت أثناء الستينيات كان سببها الرئيسى هو الانفتاح الثقافى على العالم، فكم الكتب التى ترجمت إلى العربية لم يكن مسبوقا، والبعثات التعليمية والمنح الدراسية كانت لا تنقطع فى مختلف ميادين العلم والفن، ولذا فليس غريبا أن يظهر فى مجال الأدب والفن أمثال يوسف إدريس وألفريد فرج ونعمان عاشور ولويس عوض وصلاح جاهين، فكل هؤلاء وغيرهم رفعوا راية الثقافة المصرية، فكنا أكثر تحضرا وكنا نحترم الآخر ولم يفتى أحد الشيوخ بعدم جواز تهنئة المسيحى فى عيده، بل كنا نتزاور فى الأعياد والمناسبات، ولم نسمع عن فتن طائفية كبرى فى الخمسينيات والستينيات مثلما كان الأمر بعد الردة الثقافية التى حدثت فى سبعينيات القرن الماضى، بعد ما فتح الرئيس السادات المجال للمتأسلمين فعاد الذين هربوا إلى السعودية أثناء حكم عبدالناصر بأفكار وهابية متشددة وبملابس لم نكن نألفها عبر تاريخنا، فصارت هى الزى المنتشر فى شوارعنا، وبدأت صياحات رفض الآخر تعلو فوصلنا إلى ما نحن فيه.
آراء حرة
الآخــــــــــــــر
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق