العقوبات الاقتصادية التى فرضها ترامب - أكثر رؤساء أمريكا إثارة للجدل- ضد ثلاث جبهات، إيران، تركيا، كوريا الشمالية، ما زال مؤشر تصاعدها إلى عمليات عسكرية مباشرة لم يستقر على دولة محددة. القراءات السياسية تُرجٍح بقاء طبيعة التوتر مع تركيا وكوريا الشمالية ضمن منطقة حرب التصريحات. إيران التى تجتاحها عواصف أزمات سوء الأوضاع الاقتصادية، القمع السياسى، حالة رفض جماعى لحكم «الملالى» وقيوده الدينية، بادرت إلى إجراء ترتيبات تحسبا لأى مواجهة محتملة، إذ تُشير التحركات الأخيرة إلى أنها بدأت فى اختيار المنطقة التى ستكون مركزا لهذا الصدام - العراق- استنادا إلى هشاشة الوضع السياسى والأمنى السائد.
إيران منذ ٢٠١٥ تُطلق على لسان كبار مسئوليها تصريحات تُعلن خضوع بغداد لحكم طهران، وأن العراق هو امتداد جغرافى طبيعى لإيران، أو وفق ما ذكر مستشار الرئيس روحانى، الذى وصف بغداد بعاصمة الإمبراطورية الفارسية.. ما يؤكد جدية هذه المزاعم، أولا.. مساعى إيران ضم حوزة النجف الأشرف إلى حوزة قُم، ثانيا.. العداء الإيرانى التاريخى للجيش العراقى ورغبتها فى إضعاف هذه المؤسسة الوطنية عن طريق الزج بها إلى الصراع الطائفى، حين بادرت إيران باستغلال دعوة المرجع الدينى الأكبر على السيستانى عام ٢٠١٤ إلى شباب العراق بالتطوع للمشاركة فى الحرب ضد «داعش»، وبدأت فى دفع فصائل تدين بالولاء لها لدس عناصرها ضمن هذه الدعوة بهدف تحويل مسارها الوطنى عبر الممارسات الطائفية.
بادرت إيران إلى إرسال صواريخ باليستية إلى ميليشيات حليفة تقاتل بالوكالة عنها فى العراق، وتوفير خبراتها من أجل تطوير قدرة هذه الفصائل على بناء المزيد من الصواريخ. زيادة تدفق الصواريخ وتخزينها فى العراق هى رسالة تحذير لن تمر بسلام من الجانب الأمريكى، تحديدا لأن مدى هذه الصواريخ التى نُقلت يمكنها من الوصول إلى تل أبيب.. المنطقة المحرمة بالنسبة لإدارة أى رئيس أمريكى. الرسالة الإيرانية إلى أمريكا حول امتلاكها القدرة على استخدام الأراضى العراقية منصة لإطلاق صواريخها يقترن أيضا بخطورة سيطرة إيران على المناطق القريبة من هضبة الجولان المحتلة فى سوريا، حيث يغلب الهاجس الأمنى التاريخى والتى طالما تاجرت به إسرائيل أمام العالم، على منع أى شكل للوجود العسكرى الإيرانى على حدودها مع سوريا. الاتفاق النووى مع إيران (٥+١) قد يكون حقق بعض الرقابة على برنامج إيران النووى، إلا أنه قطعا أخفق فى إيقاف تصدير الصواريخ الإيرانية إلى الجماعات الموالية لها لتعزيز أطماعها فى المنطقة.
الاستعدادات الإيرانية لتكثيف نفوذها المسلح فى مناطق يرفض «الملالى» الاعتراف بحقها فى امتلاك مشروع سياسى مستقل أو حتى احترام سيادة هذه الدولة، وأنه ما زالت تجرى فى إطار تحركات «هادئة» بعيدا عن لفت أنظار المجتمع الدولى، هى نشاط لا يمكن تجاهله طويلا، خصوصا بعد انسحاب معظم المؤسسات والشركات الكبرى الأوروبية والمصارف الدولية من إيران استجابة للمقاطعة الاقتصادية التى فرضها ترامب إثر خروج أمريكا من الاتفاق النووى (٥+١) وتوافق القوتين الأكبر «أمريكا – روسيا»، بالإضافة إلى الدول الأوروبية على ضرورة تحجيم التواجد الإيرانى المسلح فى المنطقة، سواء المباشر ممثلا فى قوات الحرس الثورى أو عن طريق الميليشيات الموالية لها.
كلا القراءتين.. سواء قررت الإدارة الأمريكية إخراج ملف إيران من «الدرج»، أو إبقاء الصراع داخل نطاق الضغوط الاقتصادية وحروب التصريحات.. فإن احتمال نشوب أى تحرك عسكرى من الطرف الأمريكى لن يتجاوز الضربات الجوية الخاطفة، والتى ستحقق النتائج المطلوبة لـ«ترامب»، وهى إرضاء إسرائيل وتأمينها من جهة طهران.. خصوصا أن «رجل المال» ترامب، الذى يخشى أيضا تآكل شعبيته، مهما عُرِف عن صدماته المثيرة للجدل، لن يُغامر بدفع أمريكا إلى عملية عسكرية شاملة على حساب أموال وأرواح الشعب. فى المقابل، هناك عدة حقائق على الإدارة الأمريكية وضعها تحت الدراسة الجدية.. أبرزها أن أى عملية عسكرية من شأنها بالتأكيد وضع المصالح الأمريكية تحت تهديد أمنى، خصوصا فى الدول التى تملك فيها إيران نفوذًا وميليشيات تقاتل بالوكالة عنها.. ردود إيران الانتقامية ستتجه إلى اعتبار هذه المصالح أهدافًا لصواريخها الباليستية. القراءة الثانية تفترض ظهور بارقة أمل فى فتح جسور التفاوض الذى يضع صقور ترامب أمام حقيقة أن المفاوض الإيرانى بطبعه يُتقن أساليب المناورة وسياسة النفس الطويل فى مواجهة ضغوط خصومه الدبلوماسية والاقتصادية، بدلا من التورط فى مبادرة القيام بأعمال عسكرية.
المؤكد أن إيران – رغم كل الأزمات- بدأت تحضير سيناريوهات بديلة فى حال تفاقم الصراع إلى عمليات عسكرية، بصرف النظر عما قد تسببه طبيعة هذه البدائل للدول الأوروبية الثلاث، «فرنسا- بريطانيا- ألمانيا»، الموقعة على الاتفاق النووى وتمسكها به حتى بعد إعلان أمريكا خروجها من هذه الاتفاقية.