تشغلنى فأبحث عنها، لكنها تنشغل عنى إذ تنسج يومها مُفردة وهى سيدة نفسها، عمتى «نفيسة الزروق» تقارب عقدها التاسع، تبدأ رحلتها اليومية بمشوارها من بيتها بحى التركيات، إلى واحة براك القديمة، تسترجع ألفة وحميمية علاقتها بأطلال المكان وما تبقى من معمار لأزقة وبيوت تقليدية بنيت بالطين وجذوع النخيل، بيتها بـ «بن سريوة» المجاور لزنقة «بوخوخة» والمحاذى لـ «جِنت خويدم»، هناك حيث الغابة وما يعمرها من نخلات، وجداول لخضار زرعته منذ سنوات وتمنحها ثمارها: «طماطم، قرع، لوبيا، فلفل، خيار إلخ…»، أما زريبة شياهها فقد منحتها بعد أن باعت آخر خرافها.
عند عين ماء (براك) تجىء بعض صويحباتها اللاتى يصغرنها بعقد أو عقدين من الزمن: «غزالة عاشور، حليمة كُحمانى، مدينة حسن»، يجلسن بمحاذاة العين يغسلن ثيابهن، ويغذين شياههن، عندها تتداعى ذاكرتهن بسيرة المكان بما حواه لأحداث وشخوص لعقود خلون، وغالبا ما يختلفن حول تعيين حادثة تلح عمتى على وثوقها منها زمانا ومكانا، وقد تنهض وتغادرهن مُنفعلة حين يشتد السجال بينهن وتتعالى أصواتهن بأغلظ الأيمان لتتمشى خطوات بعيدة عنهن مُلتقطة لحبات التمر اليابس (النفيض) المتساقط على الأرض تملؤه وسط ردائها الأحمر الزاهى، وتعاود لهن وتضعه حذو ما أعددن من مكونات الفطور: «براد الشاى الأخضر، كسرات من خبز التنور الأسمر، وما قطفن من خضار»، ويأخذهن الحديث والانشغال بما حولهن، فى ذات المكان، قصة مضت ولكنها فى البال مستعادة، فتيات خرجن لجمع تمارهن فتقدم تجاهن عسكرى فرنسى بملابس مدنية متحرشا وقاصدا الإساءة لهن، فما كان من عمتى إلا أن رفعت منجلها فى وجهه وقاربت أن تصيبه لولا هروبه مُسرعا نافذا بجلده، وقد تحمست مرافقاتها للثأر منه مسرعات خلفه لولا أن غاب عن ناظرهن، اليوم فى جلساتهن الصباحية يفاخرن بها، «أنفوسه الفارسة» هكذا ينادينها، فترفع عمتى صوتها بدعواتها لماضى الله لا تعيده ولا ترده، وتحثهن على الانتباه إلى (الضحوية) شمس الظهيرة وقبل أن تشتد حرارتها، لينظفن المكان لموعد الغد، ويجهزن لأوبتهن إلى براك المدينة.
عمتى تعرج على بعض أقاربها، ورفيقات سنها: «حوا سعد، غزالة عاشور، ومهاره»، تسأل عن أحوالهن الأسرية والصحية، وقد تشاركهن وجبة الغداء، وحكايا القيلولة، فكثيرا ما تحضر صبايا العائلة وبنات الجيران شغوفات بما تؤملهن به وهى الراعية لمشاريع خطوبة وزواج تتوسط بين العائلات وتعرض على نسائهن الأمهات ما قد تراه مناسبا لتأسيس عائلة، أو لم شمل متفارقين، فيسترشدن برأيها، ويطلبن عونها لتستطلع حظهن، ونصيبهن فى مقبل الأيام، فتمد عمتى ذراعها وتقيسها أشبارا بيدها مُرددة: «يا تاقزة النبى أصدقى وما تكذبى... ساولتك بالنبى... تجيبى ما فيك عن فلانة بنت فلان»، قاصدة التعويل بندائها (التاقزة) على من أنقذت نبينا محمد حين توجست شرا ممن كان يريد أهداءه طعاما مسموما وقد صدق تخمينها حين عرض الطعام على قطة فماتت بمجرد أكل لقيمات، وهنا تسألها العمة نفيسة أن ترشدها وبأن يكون فألها مماثلا لصدق نواياها حدسا وتخمينا لمن يثقن برأيها، لكنها أيضا تختم مسامرتهن بحكمتها التى لا تفتأ تعيدها على مسامعهن: «إن صبرتوا أجرتوا فأمر الله نافذ... وإن كفرتوا جهلتوا وأمر الله نافذ»، فلسفتها فى الحياة لما يقدر ويكتب للإنسان فى صحيفته، فلسفتها تلك التى لم أسمعها من غيرها طوال فترة جمعى لمادة الحكايات الشعبية ببراك الواحة المركز الإدارى لسلسلة واحات وادى الشاطى جنوب ليبيا.