بصدمة كبيرة، استقبلت نبأ رحيل صديقى الشاعر والمترجم والناشر الأمريكى سام هاميل، على الرغم من علمى بمعاناته المرضية، منذ فترة طويلة، لم تنقطع فيها مراسلات الاطمئنان عليه، أو محادثته لفترة قصيرة، كان آخرها فى فبراير الماضي، تحدثت معه عن رغبتى فى زيارته، فقال لي: سأسعد بالزيارة حتما وإن كنت جادة اكتبى إلى فى الربيع لأراك فى مايو أو يونيو. كنت قد حسمت أمري، حتى صدمت بالخبر الذى استقبلته بأسى عميق، وحزن لم يكسر حدته سوى قراءتى لما كتبته ابنته العزيزة إيرون عن تحقيق أمنيته، فى الموت على سريره، فى بيته وليس فى المستشفى. حيث كانت تعتنى به طبيًا (مجال عملها). كنت سأكتب إليه لآخر مرة ولم يحدث. فصار لزامًا على الآن أن أكتب عنه، من منظور عين الشاهد الذى اقترب إنسانيًا قبل عين المترجمة التى قدمته إلى العربية فى كتابين. عندما أكتب عن سام هاميل لا أكتب عن شاعر ومترجم وناشر فقط وإنما عن مناضل، ومعنى حقيقى للإنسانية والإرادة. عن نموذج للاختيار وتحمل النتائج، عن التحولات الجبارة حين تكون الفطرة صافية والعقل منفتح وواع. عن الطفل المتبنى الذى لم يجد الحنان فوهبه للأيتام. عن المراهق الذى هرب من سوء المعاملة، ففتح ملاجىء تحمى المعنفات من النساء والأطفال، مع زوجته الفنانة التشكيلية والناشطة جراى فوستر. عن إيمانه بطاقة الخير والجمال فى كل البشر، حتى فيمن جنحوا وارتكبوا جرائم ودخلوا السجون فظل يعلم فى السجون متطوعًا، لما يقرب من الخمسة عشر عامًا، فأخرج منهم أجمل ما فيهم. منهم من كتب شعرًا ومنهم من قصصًا ومنهم من نشر أيضًا. حينما أكتب عن سام، أكتب عن الإيمان بالعدالة، عن الاختيارات والمواقف التى جعلته يفضل الحياة المتواضعة، لا رغد الدولارات وإنه لاختيار - فى أمريكا - لو تعلمون عظيم. كان أولها قراره ترك الخدمة العسكرية فى قوات المارينز، أثناء حرب كوبا. فتمت محاكمته وسرح من الخدمة ليلتحق بالجامعة ويبدأ مشواره. وكان قد اتخذ قراره هذا بعد أن قرأ لألبير كامو الموقف الثانى هو موقفه المناهض لإعلان الحرب على العراق عام 2003. حينما دعته لورا بوش للاحتفال بيوم الشعر، مما أدى إلى إلغائه لأول مرة وهو التقليد الذى لم يتوقف منذ إقامته فى الستينيات بمبادرة من جون كينيدي. خرج سام والشعراء من البيت الأبيض لينشىء موقع شعراء ضد الحرب ويصدر (موسوعة قصائد ضد الحرب) والتى اعتبرت أكبر موسوعة من نوعها فى العالم إذ يضم مجلدها أكثر من عشرين ألف قصيدة، ليستحق بذلك لقب أكبر مجلد شعرى فى تاريخ الأدب.
كان سام ماسة كبيرة، أشبه ما تكون بنجمة سقطت من سماء الضمير، لتضىء ظلام العالم المتشح بالسواد ودموع اللاجئين من هول الحروب والدماء. منه تعلمت الانتصار للقضايا الكبرى، والكبار وبساطة الكبار والتحدي، والانحياز إلى الذي تؤمن به، طالما استند إلى العقل والضمير مهما أنكرك من حولك. لأن هناك شخصًا ما فى البعيد، يقف ليتلقف صوتك أنت لا تصرخ فى برية مهما تصورت ذلك. فى 14 مجلدًا شعريًا اختلطت فيها الفلسفة، بالميثولوجيا، بحكمة الرهبان وشعر الرومي. سنتعرف نهرًا هادرًا بالمشاعر وأفكاره التى ترفض الحرب أو تفضح مشاهدها وآثارها وتندد بسياسة أمريكا الخارجية. وفى ثلاثة مجلدات لمقالات فى النقد الأدبي، سنلمح الناقد الحاذق المواكب لمسيرة الحياة الأدبية، وفى أكثر من 24 كتابًا ترجمهم عن الصينية واليابانية واليونانية، واللاتينية، والاستونية. لقد كتب سام هاميل من القصائد ما يؤهله للقب الشاعر الكونى وليس الأمريكى فقط هذا إن جازت التسمية. كتب عن العراق وتمنى أن يزورها فى قصيدة طويلة بعنوان أمريكا حبيبتى أهداها إلى الشاعر صلاح الحمداني. وكتب عن القاهرة. قصيدة القاهرة، حينما زارها فى 2007 كانت عن القاهرة الحديثة والفاطمية وعن ابتسامة صياد بسيط وزوجته وطفلهما فى قارب. كنت أقف بجواره وقتها على النيل. كتب عن القدس وعن غزة عن الأطفال الذين يقفون فى صفوف ينتظرون الخبر ينتظرون الماء. وكتب عن شاعر قتلته السلطة فى بلده قصيدة (فى وفاة جيمس أوسكو أنا ماريا)، كتب عن راع أفغانى بسيط وعن الرهبان وعن الأشجار والساكت عن العدل والحرية والدم الذى يراق مقابل النفط. لم يتوقف سام عن الوقوف فى وجه شتى أنواع الجور والظلم سواء من الإنسان لأخيه الإنسان أو من الحكومات لشعوبها وحتى البيئة لم ينسها فطالما كان منشغلًا بتلوث المحيط والهواء. كان أكبر من مثقف عضوى وأقل قليلا من راهب تيبيتى ترك الجبل وعاش بين الناس حتى تعب. ومضى فى حرير الزمن. تاركًا عطره وأمنياته وأفكاره المضفورة بالكلمات. ترك قصائده التى لن تفنى ولن تنسى. لأن بها من الصدق والحقائق ما يجعلها شاهدة على التاريخ وأغنيته للعدالة من جيل لآخر.