كان «علي» في زمن آخر بين أناس آخرين؛ كانت فيه رقصة «الكيكي» على محراث الأرض الزراعية؛ وقت أن كانت مصر ترتدي ثوبا أخضر يغطي جسدها كاملا بامتداد النيل؛ لم تكن النساء حينها تعرف «البلوك» لرجالها؛ بل كن يشمرن عن سواعدهن كالرجال؛ ذلك كان في زمن «والحلوة دي قامت تعجن في الفجرية»، وكان «ذا ران» حينها تحت التوتة في الضهرية؛ كان "علي" كنبتة خضراء اشتد عودها؛ وكان التعليم قد أتى إلى القرية على حمار وفي يده شمسية؛ فاستقبله الفلاحون بترحاب؛ وقدموا أولادهم له عن طيب خاطر؛ تعلم "علي" الكتابة وأول كلمة كتبها «أحب»؛ كتبها على غلاف كراسته؛ لكنه ظل لسنوات لا يعرف لمن يهديها؛ سنوات وهو يذاكر على «ممشى» بين الأراضي الزراعية؛ يصافح ندى الصبح بجبينه؛ حتى إذا ما لفحته حرارة الظهيرة عاد إلى داره؛ ليضع رأسه في الشباك البحري؛ فيسحبه النسيم إلى عالم آخر فيلتقي تلك الحبيبة؛ جدول يومي ثابت تصحبه فيه نظرات والديه وهما يعملان في الأرض؛ وعندما يغيب عن أنظارهما تلاحقه دعواتهما بالتوفيق؛ وبينما هو منهمك في القراءة؛ سمع دبدبة حافر حمار يأت كرهوان خرج من مضمار سبق؛ تمتطيه فتاة؛ وكأن الحمار أحس بالنعمة التي على ظهره «فبرطع» سعيدا ناسيا وجهته؛ كادت تسقط فالتقمها بين ذراعيه؛ «شكرا» منها كانت كفيلة أن يتحسس كلمته على غلاف كراسته؛ أعطته برتقالة؛ فنقش عليها بالسكين من أنتي؟ ووضعها في جيب جلبابها ربما تسوق الصدفة الفتاة إليه مرة أخرى؛ فيرد إليها البرتقالة؛ بعد أسبوع تحقق مراده؛ مرت فمد يده بالبرتقالة؛ فتبسمت دون أن تنبس وأخذتها؛ كتبت هي الأخرى اسمها على وجه البرتقالة الآخر وأعطتها له؛ لم يعد في البرتقالة مساحة أخرى لاستكمال حوارهما؛ فأخذ 5 كيزان من الذرة وبدلا من أن يقايضهما ببطاطا؛ أخذ من دكان "عم جودة" كراسة وعنونها "أحبك"؛ في الصفحة الأولى أخذ من نزار كلماته: «أكتب كي تقرأني سنابل القمح، وتقرأني الأشجار، كي تفهمني الوردة»، ثم بدأ علي يكتب لها خطابه الأول: « أسائل دائما نفسي، أليس الحب للإنسان عمرا داخل العمر.. لماذا لا يكون الحب في بلدي طبيعيا كأية زهرةٍ بيضاء .. لماذا لا يحب الناس .. في لينٍ وفي يسر؟، طبق خطابه بحيث كان بين إصبعيه، دار حول دارها يتنسم رحيقها، حتى إذا خرجت وكأنها شعاع مصباح وضاء كان بالداخل، ارتعدت ونظرت خلفها، فقفز بخطابه وتولى، مالت على الأرض فارتفعت الأرض لها حتى قابلت كفها، دخلت إلى دارها وعلى ضوء المصباح قرأت ما كتبه «علي»: « وَصَاحِبَتي .. إذا ضَحِكَتْ يسيلُ الليلُ مُوسِيقى.. تطوقنى بساقية.. من النَهَوَنْد تَطْويقَا»، كراسة كاملة كتبها «علي» لحبيبته، وكراسة كاملة رددت بها عليه، قبل أن يقع أحد الخطابات في يد والدها، وهنا كان الأمر جلل في القرية، جٌرم أن تحب وأعظم منه أن تجاهر بحبك، ياللعار.. جلسات النميمة اشتعلت وسمر «الرواكي» انتعش، وسيرة «علي وحبيته» باتت على كل لسان، و«علي مازال يخاطبهم بلغة غير لغتهم حتى أن والدته عاتبته قائلة: «ليه يا علي يا بني كده.. ده أنت كنت جدع وشاطر ليه تمشي في سكة الشيطان؟»، فيرد عليها علي؟: «لماذا أهل بلدتنا؟.. يمزّقهم تناقُضُهُمْ .. ففي ساعاتِ يقظتهمْ يسبّونَ الضفائرَ والتنانيرا .. وحين الليلُ يطويهمْ يضمّونَ التصاويرا»، تخبط الأم كفيها وتقول: «عليه العوض ومنه العوض في العيل اللي حيلتنا.. الواد الشيطان لبسه»، انتشر الأمر إلى الحد الذي كاد أن يحدث فيه قتال بين العائلتين، فتوسط رجال القرية واتفقوا على «جلسة عرفية»، كراسة «علي» مع والد حبيبته، وكراستها في قلب «علي»، باللين حاول والده انتزاع صفحة واحدة منها ليكسب الجلسة العرفية ويقول لرجال القرية أن «مقصوفة الرقبة» هي الأخرى تراسله، لكن «علي» رفض، ربطوه في حظيرة المواشي وانهالوا عليه ضربا وسلطوا عليه خفير الدار: «فين الجوابات بتاعتها يا ابن.. طاخ طيخ طوخ..» وعلي يردد: «لا تبحثوا عنهُ هُـنا بصدري تركتُهُ يجـري مع الغـروبِ.. ترونَهُ في ضـحكةِ السواقي.. في رفَّةِ الفـراشةِ اللعوبِ.. في البحرِ..في تنفّسِ المراعي وفي غـناءِ كلِّ عندليـبِ»، حكمت الجلسة العرفية على والد «علي» بـ500 جنيه، وكانت حينها تعادل 5 ملايين جنيه الآن، داوت الأيام جراج جسده من جراء الضرب، كان سعيدا لأنه وإن صار كل واحد منهما في طريقه لكن الحب ظل، وعاشت القصة في أذهان حتى من هاجموه، وربما تداولوها فيما بعد بينهم، من أن «علي» لم يفعل حراما.. لكنه أحب وأخذوا يسألون عن هذا الشئ الذي جعل «علي» يتحمل الضرب والإهانة والتعذيب ولا يبوح بسر صغير يخص من أحب، قبل أن يحرق علي كراسة حبيبته حتى لا تقع في يد أحد كتب على آخر صفحة فيها: «أقاوم كلَّ أسواري .. أقاوم واقعي المصنوعَ من قشٍّ وفُخَّارِ.. أقاومُ كلَّ أهل الكهفِ ، والتنجيم ، والزارِ .. تواكُلَهُمْ.. تآكُلَهُمْ.. تناسلَهُمْ كأبقارِ».
آراء حرة
حواديت عيال كبرت "28".. "علي ونزار وخفير الدار"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق