الرسول صلى الله عليه وسلم ترك لنا أمورًا كثيرة- مثل تفسير القرآن- ليفسر حسب كل عصر ليناسب متغيراته وتطوره، وهو أمر ليس للتيسير فقط، بل لترك مساحة من الاجتهاد وحركة الفكر، وعلى هذا النحو ترك الخلافة لنظام الحكم المناسب للمجتمع، لكن أصحاب الكهنوت الدينى روجوا لفكرة الخلافة طمعًا فى السلطة وحبًا فى النفوذ وليس لإعلاء كلمة الله، فقد قال الله تعالى فى منتصف سورة هود (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها)، واستعمركم هنا دلالة على الإعمار والرقى وترك بذلك أيضًا مساحة للاجتهاد دون أن يقيد أو يقنن طريقة الإعمار.
وقد ابتلينا عبر التاريخ بوهم كبير سفكت لأجله بحار من الدماء وأزهق فى مطاردته ما لا يعد ولا يحصى من الأنفس البريئة.. خرافة عشناها حتى تملكتنا وأصبحت تأتى طائفة منا فى الأحلام والرؤى!! وتخابر طائفة أخرى عبر سرداب!! هذه الخرافة أفسدت على المسلمين دينهم ودنياهم واستغلت أسوأ استغلال من تجار الدين والسياسة والاستخبارات الأجنبية حتى جعلت كركن من أركان الإسلام والإيمان وهى ليست من ذلك فى شيء إلا بمقدار ما للأسطورة من علاقة بالواقع والحقيقة..!!.
ولنلتقط صورا جسدها رجال الكهنوت لتكون مثالًا على ذلك، فالخلافة عندما سقطت فى أوائل القرن العشرين بدأت الصراعات عليها من جهتين رئيسيتين، الملكية المصرية وآل سعود، حيث بدأ الأمر بالحشد من الطرفين وتدشينها بريادة حسن البنا وعدة علماء وفى ١٩٢٨، وتحديدا بعد المؤتمر الخامس للخلافة، استقل حسن البنا واختص الفكرة بنفسه وأنه لابد من عودة الخلافة حتى يعود الإسلام، إنها أول جريمة ارتكبت فى حق الإسلام وهى مزج ماهية الدين بفكرة الخلافة، وعلى إثر ذلك أن أى دماء أريقت أو تراق أو ستراق تكمن فى الدفاع عن ذلك السراب الذى اختلقه من أجل فكرة عبثية ألا وهى ثبوت قدم الإسلام، غاضًا بصره عن المقصد الأول بالحديث الشريف (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق؛ أو كما قال) أخذ حسن البنا على عاتقه مشمرًا فى وضع اللبنة الأولى للجماعة وكما يقولون أول القصيدة كفر أطلق عليها جماعة «الإخوان المسلمون»، ربما يراه البعض شيئا عاديا ويمر على أعيننا مرور الكرام لنحلله ونرى ما المغذى الذى يحتويه، كلمة «المسلمون» بالألف واللام، مثال من خصائص المسلمين الصلاة فى المسجد مباشرة يفهم «المسلمون كافة»، ولكن لو قلنا هناك مسلم يتصدق، تؤخذ الكلمة فى حيز ضيق، وهى تعنى فردا مسلما ما يتصدق، القصد هو أن حسن البنا أراد أن يختزل الإسلام فى جماعته (الإخوان المسلمون) وفى ذلك دلالة على أنه يرى أن كل من خرج عن جماعة المسلمين فساق، كفار وذلك الأمر يذكرنا بالخوارج حينما كفروا الإمام على ومعاوية وقالوا، إن الفئتين كفار، ولا يحكم إلا مؤمن، وبالطبع هم اختزلوا المؤمنين فيهم، وبالتالى هم لهم حق الحكم، وعلى هذا النهج يسير حسن البنا والجماعات السلفية والجماعة الإسلامية وغيرها، الكل يطمع فى السلطة يلهث عليها، علاقتهم بالدين أنه مجرد بطاقة لصرف مطامعهم.
والناظر للتاريخ الإسلامى سيعرف يقينا أن الفكرة المثالية والروحانية للخلافة لم تتحقق إلا فى عهد الخلفاء الراشدين بعد الرسول عليه الصلاة والسلام والتى استمرت ما يقارب الثلاثين عاما وانتهت باغتيال الإمام على رضى الله عنه ومن بعده تحولت إلى حكم ملكى وراثى تحت مسمى خلافة لا يوجد به شورى أو حرية فى الاختيار بل انتقال تلقائى للحكم فى أسرة واحدة تتوارثه.
وعليه فإن ما نقرأه ونطالعه منذ سنوات عن ضرورة عودة الخلافة الإسلامية تحت دعاوى مختلفة ما هى إلا محاولات من بعض الجهات التى تحاول الوصول إلى الحكم والسيطرة عليه بحجة تحقيق الخلافة وخلف ستار الدين للعب بمشاعر المسلمين فى مختلف البلدان الإسلامية فى محاولة لإقناعهم بأن تحقيق الخلافة الإسلامية سيعيد المجتمع إلى حالة المثالية التى قرأنا عنها فى كتب التراث عن فترة الخلافة الراشدة.
وحقيقة الأمر فإن تحقيق العدل والأخلاق والصلاح فى المجتمع غير مرتبط بمسمى نظام الحكم بها قدر ما هو مرتبط بالمواطن وتعاملاته مع الغير وبالطبقة الحاكمة وأخلاقياتها ومعتقداتها فى التعامل مع المواطنين، فلا يوجد تعارض بين مسمى نظام الحكم ووجود حالة من القبول أو الرضا بين المواطنين، فسواء كان الحكم جمهوريا أو ملكيا أو «خلافة»، فالمهم هنا هو تحقيق متطلبات المواطن المختلفة وتحقيق حالة الرضا له قدر الإمكان وعليه فلا ينبغى الانقياد حول الدعاوى المختلفة لبعض الجهات والأطراف التى تحاول الربط بين وجود الخلافة كنظام للحكم وبين تحقيق الرضا والعدالة والرفاهية للمواطن فهو ادعاء باطل من كل الأوجه وعلى الجميع أن يكونوا أكثر وعيا تجاه ما يقال وينشر فى الوسائل المختلفة، فحقا صدق من قال إننا فى زمن الفتن.
حفظ الله مصر وشعبها وجيشها