يتابع الروائى باتريك روجييه فى رواية «ليلة العالم»، التى يتناول فيها السيرة الذاتية والأدبية لنمطين من الكتاب الكبار هما الأيرلندى جميس جويس والفرنسى مارسيل بروست والتى نقلتها إلى العربية جينا بسطا، والصادر عن المركز القومى للترجمة 2016 بقوله: كان جويس يحمل فى رأسه عنوان روايته منذ زمن بعيد، بينما لم يجد برووست عنوانا لروايته إلا فى مرحلة متأخرة. كان الأول شاعريا، وكان الثانى كتوما مراوغا. كانت رواية جويس كتابا واضحا يقظا، أما كتاب برووست فكان متثائبا. كان الأول زمنيا أما الثانى فكان مكانيا.
بمجرد نشر رواية جويس كانت رواية برووست قد انتهت. كانت جميع الأمور تتبلور لدى الواحد بينما تميل جميعها لدى الآخر. وحينما نظر كل منهما فى عينى الآخر مدح كل منهما صاحبه قائلين:
أنت بركان من الانفعالات، يا جيمي.
بل أنت محيط من المشاعر، يا مارسيل.
هل يمكن تخيل برووست حين يصبح عمره مائة وأربع سنوات؟ ووجهه الشاحب الممتقع الجنائزى منتفخ الأوداج وسمين، تدهورت حالته وتفاقم تعبه وبدأت ذاكرته الحديدية تخونه.
ولكنه لم يعد يصدق أن مخه الذى يحتوى على مناطق ذات دور حيوى فى الاستخدام اللغوي، يمكن أيضًا أن يصاب. آه ما أشد رعونة المحتضرين! غرق مارسيل وسط الفلين الذى كان يكسو غرفته وسبابته معقوفة كظهر الأحدب، وفى رد فعل لا إرادى جعل يخمن ما ينتظره بعد الحياة. كان قد ناشد شقيقه الأصغر أن يقوم بإعداد كل شيء لمراسم الدفن وقد طالبه روبير الذى كان يعامله كمريض رغمًا عنه، ببأس وشدة: «لا تنم يا مارسيل! لا تنم!».
كان خائر القوى، ولم يعد يشعر بشيء، انسحبت نفسه منه واتسعت حدقتاه وارتخى جفناه وتلاحقت أنفاسه، كان آخر بيت بالمسرحية التى عمل بها فى شهر مايو عام 1890 بوصفه ملقنا يقول «ويحتم على أن أنفخ كثيرا حتى لألهث من شدة النفخ» والتحق «بمملكة العدم» على يقين بأنه سوف يستسلم لسبات دائم، هو الذى طالما بحث عن النوم دون أن يجده، صار النوم بالنسبة له مميتًا، وغامت مقلتاه تحت غمامة توقف بعدها عن الوجود.
وهتف روبير فى أنين كسير «لقد مات مارسيل». قامت سيليست بإغلاق عينيه وترطيب شفتيه الشاحبتين واضعة يديه الجميلتين ذات الأصابع الرفيعة فوق الملاءة وباقة من زهور البنفسج على صدره وشبكت سبحة بين أصابعه المتسيبة قبل أن تبدأ فى غسله. كانت الساعة الرابعة والنصف عصرا.. وقت الشاى فى يوم السبت 18 نوفمبر عام 1922 بعد سهرته التذكارية مع جيم بسبعة أشهر باليوم.
انتشر الخبر كالنار فى الهشيم بمنطقة بوتان فيل، كان من لا يعرفونه يتناقلون الخبر «لقد مات ميشيل برووست» مدعين الرثاء. رغم مظاهر الحزن كانوا يحتقرون ذلك الشخص الذى طالما ارتاد المطاعم وعلب الليل، وكاتب ذكريات المجتمعات الراقية التى انتشرت على صفحات جرائد لورور وفيجارو والجازيت روز.
أقيمت مراسم الدفن فى اليوم التالي، الأربعاء 22 نوفمبر 1922. كان صباحا ذا طقس رمادى سيئ، كان المطر يتساقط ولم يدفن مارسيل فى أبهة كبير بمقابر كنائس نوتردام، وإنما فى كنيسة أبرشية سان بيير دى شايوه على مقربة من خطوتين من بيته.
فى الساعة الثالثة وصل جويس وكان حزينا وتعيسا كأنه جاء ليحضر جنازته هو الشخصية مستبقا موته بعدة سنوات. ظل يتذكر جملة مارسيل فى كتابه «العثور على الزمن المفقود» حيث يقول: «يعتبر الكتاب جبانة كبيرة، بما يعد يمكننا قراءة الأسماء الممسوحة فوق معظم قبورها».
ضاعف جويس من خطواته حتى لحق بالجماعة التى لم تعد تضم فقط أنصاف الأدباء ولكن أسماء لامعة فى مجال الأدب الذين تواعدوا والتزموا بذات المظهر الرسمى فى ساحة الجبانة. وهم يبكون موت الكون كله. كانوا يبدون منهارين، يرتدون أزياء الحداد على ذلك الأديب المأسوف على شبابه، هم أنفسهم قد اختفوا للأبد. ففناء أديب حقيقى يجلب معه فناء الآخرين جميعا بالتبعية.