الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

التصور العلمي للعالَم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
محفورة فى ذاكرتى وقائع أول محاضرة تلقيتها، حين كنت طالبًا بالفرقة الأولى بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة عين شمس، كان أستاذى أستاذ الفلسفة اليونانية يلقى محاضرة رائعة عن الفلاسفة الطبيعيين الأوائل الذين شكلوا - فى القرن السادس قبل الميلاد - أول الاتجاهات الفلسفية فى اليونان؛ وهو الاتجاه أو المذهب الأيوني، الذى نشأ فى المستعمرات اليونانية على الشاطئ الغربى لآسيا الصغرى، تحدث الأستاذ فى تلك المحاضرة عن «طاليس» Thales أول فيلسوف ظهر فى بلاد اليونان، والذى وُلِدَ بمدينة ملطية فى آسيا الصغرى سنة 624 ق.م تقريبًا. ذكر الأستاذ على مسامعى أن محور فلسفة «طاليس» هو القول بأن: «الماء هو أصل الأشياء وجوهرها». حين سمعت تلك العبارة وردت على ذهنى تساؤلات كثيرة:
- الماء هو أصل الأشياء وجوهرها!.. ألا يبدو هذا القول غريبًا؟
- إذا كان من الممكن تبرير أن الماء أصل الكائنات الحية، فكيف نبرر أنه أصل الجمادات والكواكب والنجوم؟
- وهل العلم السائد (علم النصف الأخير من القرن العشرين) مع القول بأن الماء أصل الأشياء؟
- ماذا تقول النظريات العلمية الحديثة عن أصل الكون وأصل العالم وأصل الأشياء؟
- وما علاقة الفلسفة بالعلم؟
منذ تلك اللحظة أدركت أهمية فهم حقيقة علاقة الفلسفة بالعلم والأبعاد المختلفة لهذه العلاقة، لذلك كان حرصى منذ سنوات دراستى الأولى بالجامعة منصبًا على أن يكون تخصصى الدقيق هو «المنطق وفلسفة العلوم»؛ إدراكًا منى بأن الفلسفة الحقة لا تتنكر للعلم السائد، لأن العلم السائد فى عصر ما يؤثر تأثيرًا عميقًا على نظرية المعرفة فى ذلك العصر. وأى تغير جذرى فى العلم يتبعه رد فعل فى الفلسفة. ولما كانت قوانين نيوتن هى السائدة فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد أدى ذلك إلى احتلال فكرة السببية موقع الصدارة فى كل نظرية للمعرفة فى العصر الحديث، وما فلسفة «كانط» Kant 1804 -1724 إلا دليل واضح على فعَّالية العلم السائد وتأثيره على الفكر الفلسفى. فلقد كان علم الكونيات cosmology عند كل من «كوبرنيقوس» N. Copernicus (1543 - 1473) ونيوتن هو الإلهام القوى والمؤثر فى تفكير «كانط» الفلسفي، وإعجاب كانط بالثورة العلمية التى أحدثها «كوبرنيقوس» فى مجال علم الفلك، حفَّزه لتحقيق ثورة مماثلة فى مجال الفلسفة، يؤكد من خلالها أن الأشياء أو التجربة تنتظم وفقًا لتصورات الذهن. وهذه الثورة الفلسفية التى حققها كانط أطلق عليها اسم «الثورة الكوبرنيقية» لا الكانطية. ولا يمكن أن تُعَد الثورة الكوبرنيقية مجرد انقلاب فكرى فى مملكة العلم النظري، أو مجرد فرض لسلطان العقل على الأشياء بلا مبرر أو داع. إنما هى ثورة تبررها طبيعة العلم فى العصر الذى عاش فيه كانط (فيزياء نيوتن). ولقد كانت الفلسفة الكانطية انعكاسًا رائعًا لهذا العلم السائد فى ذلك العصر.
ظلت فيزياء نيوتن سائدة لأكثر من قرنين من الزمان، إذ مرت بتطورات تالية امتدت حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكانت كلها تنطوى على تأكيد متجدد لهذه الفيزياء، والتى تُعْرَف اليوم باسم «الفيزياء الكلاسيكية» Classical Physics وتم التعبير عن قوانين هذه الفيزياء فى صورة معادلات رياضية، وهكذا كان القانون الرياضى أداة للتنبؤ، لا أداة للتنظيم فحسب، وقد فُهِم ذلك على أساس أن هناك نظامًا دقيقًا بين جميع الحوادث الطبيعية، تعكسه العلاقات الرياضية، وهو نظام يعبر عنه لفظ «السببية». ولقد صاغ الرياضى الفرنسى لابلاس Laplace (1827-1749) هذا الارتباط الضرورى بين الحوادث الطبيعية، فى تشبيهه المشهور الذى يقول: «لو استطاع عقل ما أن يعلم فى لحظة معينة جميع القوى التى تحرك الطبيعة، وموقع كل كائن من الكائنات التى تتكون منها، ولو كان ذلك العقل من السعة بحيث يستطيع إخضاع هذه المعطيات للتحليل، لاستطاع أن يعبر بصيغة واحدة عن حركة أكبر أجسام الكون وعن حركات أخف الذرات وزنًا، ولكان علمه بكل شىء علمًا أكيدًا، ولأصبح المستقبل والماضى ماثلين أمام ناظريه كالحاضر تمامًا». هذه الحتمية الفيزيائية هى أهم نتيجة لفيزياء نيوتن.
ومع بداية القرن العشرين أدى تطور علم الفيزياء إلى إعادة النظر فى فكرة القوانين الطبيعية، وانتهى بفلسفة جديدة للسببية. فلقد اتضح من أبحاث ميكانيكا الكم الحديثة أن الحوادث الذرية المفردة لا تقبل تفسيرًا سببيًا، بل تحكمها قوانين الاحتمال Probability فحسب. وهكذا اتضح أن الكون ليس آليًا ولا محتومًا، على الأقل بالنسبة لبعض الظواهر الفلكية والنووية. واختفى تبعًا لذلك المثل الأعلى لعالَم يخضع مساره لقواعد دقيقة، أو لكون متحدد مقدمًا، يدور كما تدور الساعة المضبوطة. واختفى المثل الأعلى للعالِم الذى يعرف الحقيقة المطلقة. واتضح أن أحداث الطبيعة أشبه برمى زهر النرد منها بدوران عقارب الساعة، فهى خاضعة للقوانين الاحتمالية، لا العلية. أما العالِم فهو - على حد تعبير ريشنباخ Reichenbach (1953 - 1891) - أشبه بالمقامر، فهو لا يستطيع أن ينبئنا إلا بأفضل ترجيحاته، ولكنه لا يعرف مقدمًا إن كانت هذه الترجيحات ستتحقق. ولكنه مع ذلك مقامر أفضل من ذلك الذى يجلس أمام المائدة الخضراء، لأن مناهجه الإحصائية أفضل، والهدف الذى يسعى إليه أسمى بكثير - وهو التنبؤ برميات الزهر الكونية. فإذا ما سُئِلَ عن أسباب اتباعه لمناهجه، وعن الأساس الذى يبنى تنبؤاته عليه، لم يكن فى وسعه أن يجيب بأن لديه معرفة بالمستقبل تتصف باليقين المطلق، بل إنه يستطيع أن يقدم أفضل ترجيحاته. ولكان فى وسعه أن يثبت أن هذه بالفعل هى أفضل الترجيحات، وأن القول بها هو أفضل ما يمكن عمله.
من الواضح أن تحليل فكرة السببية يكشف عن ضرورة فكرة الاحتمال، حتى بدون نتائج ميكانيكا الكم، ففى الفيزياء الكلاسيكية يُعَد القانون السببى تعبيرًا مثاليًا، لا يسرى إلا على موضوعات مثالية، أما الحوادث الفعلية التى نتعامل معها فلا يمكن التحكم فيها إلا فى حدود درجة عالية من الاحتمال، لأننا لا نستطيع تقديم وصف شامل لتركيبها السببي. ولمثل هذه الأسباب اتضحت أهمية مفهوم الاحتمال حتى قبل ميكانيكا الكم. وبعد هذه الكشوف أصبح من الواضح أن أى فيلسوف لا يستطيع إغفال مفهوم الاحتمال إذا ما أراد أن يفهم تركيب المعرفة.