يتابع الروائى باتريك روجييه فى رواية «ليلة العالم»، التى يتناول فيها السيرة الذاتية والأدبية لنمطين من الكتاب الكبار هما الأيرلندى جميس جويس، والفرنسى مارسيل بروست، والتى نقلتها إلى العربية جينا بسطا، والصادرة عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٦، بقوله: «استمر جويس لستة عشر عامًا يعمل اثنتى عشرة ساعة يوميا فى رواية «يوليسيس» لا يتوقف إلا لخمس دقائق من وقت لآخر حين يجد نفسه لم يعد قادرًا على الرؤية، أو حين يجد عقله مفتقدا للتركيز»، واقترحت الناشرة الأمريكية «بيتش» منذ الوهلة الأولى نشر «يوليسيس» كمحاولة لتقديم مفهوم شامل عن العالم، وكملحمة للجسم البشرى، كأوبرا ضخمة تحوى كل الكتب التى تتشابك بهدف إخراج كتاب واحد، كنوع من الموسوعة العملاقة التى ترغب فى إشعال ثوره فى الأدب العالمى.
استنزف تسع من موظفات الآلة الكاتبة جهودهن فى بعض الفصول كالفصل الذى يحمل عنوان «سيرس»، فقد رفضت إحداهن نسخ مخطوط ناضج بهذا الشكل، ودقت الثانية باب بيته وألقت بالمخطوط فوق رأسه، أما زوج الثالثة فقد قام بتمزيق جزء من المخطوط وحرقه بعد اكتشاف ما به، مما دعا «جويس» لاستكمال الأجزاء التى تلفت وإعادة كتابة الكل من جديد من ذاكرته.
وتحول «جويس» سريعا إلى أحد معالم الرواية، وصار اسمه ذا شهرة صارخة تفيض بعبق مسكر. كانوا يسألونه هل يعتبر نفسه «يوليسيس» وهل هو بطل كتابه؟ وكأن الرواية والمؤلف لا يمكن أن يظلا مستقلين. كانت نظرة جويس للعالم نظرة كلية، أما «بروست» فكانت نظرته للعالم كمن يراه عن بعد.
حيث إن الكتابة بالنسبة لهما كانت كالعدسة المكبرة المثبتة على الزمن، فقد أفرط كلاهما فى إدخال خلخلات على عامل الزمن. كان «بروست» يبدأ من أول السطر حتى يطيل المدة إلى ما لا نهاية؛ أما «جويس» فيبدع عددا لا نهائيا من المشتقات مما يؤذى الجملة فى النهاية، كلاهما كان يصبو أن يستقر خارج نطاق الانتقاد.
كان أحدهما مستقرا فى مكانه بقدر ما كان الآخر رحالا، حياة الفنادق كانت عذابا بالنسبة لـ«جويس»، بينما كان «بروست» يصحح مخطوطاته فى الفندق دون أن يقيم به. رواية «يوليسيس» تعج بالعناوين وبأسماء الشوارع بينما «البحث عن الزمن المفقود» لم تحوٍ أى أسعار أو تواريخ أو أرقام. والأحداث الواقعية قليلة فى الروايتين، ففى «يوليسيس» جاء غرق إحدى السفن فى سطر واحد، بينما شغلت جولة «بلووم» ببيوت الدعارة التى غرق فيها حتى أذنيه، مائتى صفحة. وكذلك أشار بروست إلى رحلة بحرية دامت سنة كاملة كحدث عارض ضمن مائة صفحة. كل شىء مترابط. «يوليسيس» تعالج تاريخ الإنسان فى مجمله، أما «البحث عن الزمن المفقود» فتتعرض للمجتمع بكل تعقيداته. أرسى كل من الأديبين هيكل روايته فوق أنقاض كيانه المتداعى.
استأنف «بروست» حديثه ممدا ساقيه «كم من الألم تكبدته للانتهاء من هذا العمل! لا يمكن لأحد إدراك ما عانيته من آلام. آه لو أمكن أن أستريح...» «بل إنك تستطيع ذلك تماما أيها العزيز بروست فإن روايتك قد انتهت ونشرت عن آخرها تقريبا»، ومرت دقيقة طالت وكأنها دهر. «ليست الكتابة بالأمر اليسير». «ولكن لماذا الكتابة؟ إذ ليس هناك علاج لهذا المرض سوى الكتابة. وماذا تفعل أنت أيها العزيز جويس؟ «أنا شريد يترنح، يصطدم قدمى بحجر، أهبط بناظرى فأجد تماما ما أبحث عنه. وأنت؟ ماذا عنك أنت؟» أما أنا فليس لى أى استحقاق. فأنا أسعى جاهدا لأكتب ما أشعر به. «ليس المهم ما نكتب ولكن كيف نكتب» «تكمن عبقرية الكاتب فى مسوداته» «من هم من تعتبرهم أفضل المؤلفين؟» «لا أرى أحدا سوانا نحن الاثنين». (ضحكات) ثم أضاف «بروست»: «الكلاسيكيون الوحيدون الحقيقيون هم المجددون». كان «جويس» يعشق الاستشهاد بالمقتطفات. فأضاف غير عابئ باستشهاده بما كتبه هو شخصيا: «المجددون لا يخشون الماضى قط». كان بروست يعرف تلك المقولة التى أجراها هو نفسه على لسان أحد شخوص روايته: «الكلام المكرر يندر أن يكون حقيقيًا».
وللحديث بقية..