اتفقت معه أو اختلفت، تؤيده أو تعارضه، ليس بمقدورك أن تنكر أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مخطط تكتيكى من الطراز الأول. وعندما يتعلق الأمر بالانقلابات السياسية على المستويين القصير والمتوسط فليس هناك من باستطاعته مضاهاة النجاحات التى حققها غالبا بأقل تكلفة ممكنة بالنسبة له، وهى من الأمور العديدة التى تميز بها الثعلب الروسى المخضرم.
آخر نجاحات بوتين كانت ما أطلق عليه معاهدة الوضع القانونى لبحر قزوين، التى وقّعتها الدول الخمس المطلة على بحر قزوين لينتهى بذلك خلاف متجمد منذ ٢٢ عاما. وبفضل هذه المعاهدة تتحول أكبر بحيرة فى العالم إلى قاعدة بحرية وجوية لروسيا وتحصل موسكو على الكلمة الأولى والأخيرة فى الاستغلال والتسويق لاحتياطات الطاقة الهائلة بالمنطقة وهو الهدف الأهم والأسمى الذى تضعه روسيا نصب أعينها فى كافة تحركاتها.
وبعد ٢٤ ساعة فقط من توقيع المعاهدة أعلنت موسكو البدء فى العمل على بناء قاعدة ضخمة جديدة فى داغستان وهى واحدة من الجمهوريات «الفيدرالية» الروسية بمنطقة القوقاز. ومن شأن القاعدة الجديدة التكامل مع المنشآت الأخرى الأقدم القائمة بالفعل فى أستراخان على الطرف الشمالى من بحر قزوين. ومن شأن وجود هاتين القاعدتين معا منح روسيا تفوقا عسكريا هائلا بمجال العمليات العسكرية فى مناطق جنوب القوقاز والشرق الأوسط ووسط آسيا والبحر الأسود.
لكن هذه ليست القصة برمتها، فثلاث من الدول المطلة على بحر قزوين، أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان، رغبت بشدة فى إقرار هذه المعاهدة لتوفير غطاء قانونى للعقود المربحة بشدة التى وقعتها بالفعل مع شركات أمريكية وأوروبية عملاقة بمجال النفط ناهيك عن عقود أخرى كبرى يجرى التفاوض بخصوصها. أما العقبة أمام ذلك كله فكانت إيران التى أصرت على مدار عقدين على أن بحر قزوين بمثابة بحيرة تخضع للسيادة الإيرانية الروسية المشتركة بناء على ٣ معاهدات موقعة بين البلدين فى القرنين الـ١٩ والـ٢٠. وقد فشل سلفا بوتين فى الرئاسة - بوريس يلتسين وديمترى ميدفيديف - فى دفع ملالى إيران نحو تغيير موقفهم من خلال مفاوضات رسمية.
أما بوتين فقد نجح فى إنهاء هذا الخلاف المتجمد عبر تجاهل الحكومة الرسمية الإيرانية - أى الرئيس ووزارة الخارجية - وفى عام ٢٠١٥ اتجه مباشرة إلى «المرشد الأعلى» لعقد اتفاق معه. ودار الاتفاق حول أن يقدم بوتين العون لإيران فى مساعيها للإبقاء على الرئيس السورى بشار الأسد فى السلطة فى دمشق مقابل تخلى إيران عن الفيتو الذى تفرضه على مستقبل بحر قزوين. وخلال ما يزيد قليلا على عامين أنجز بوتين نصيبه من الاتفاق - على الأقل فى الوقت الحالى - والآن حان دور إيران كى تلتزم بتعهد خامنئى بالتخلى عن المطالب التاريخية الإيرانية المتعلقة ببحر قزوين.
لكن الروعة الحقيقية للأمر برمته أن المعاهدة أطلقت وأبرمت فى إطار ما ظهر أنه إطار عمل قانونى مثالى وبموافقة الدول المجاورة لروسيا المطلة على بحر قزوين.
وكعادته دائما فى السعى وراء مكسب إضافى، أقنع بوتين أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان بالسماح لروسيا بالحصول على نصيب من النفط الخاص بها كمكافأة لها على «ترويض الإيرانيين».
ولم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما نجح بوتين أيضا فى إقناع ملالى إيران بمنح أكبر عقد بمجال الطاقة على مستوى البلاد حتى الآن إلى شركات روسية مملوكة للدولة. ويبدو هذا إنجازا تاريخيا بالمعنى الحقيقى لأنه يضع نهاية لقرن من الرفض الإيرانى للسماح لروسيا فى صورها المختلفة من القيصرية إلى السوفياتية بالحصول على قضمة من التفاحة النفطية الإيرانية.
وكما هو الحال مع الأسلوب المعتاد من بوتين جرى كل شيء بصورة لطيفة وقانونية.
بذات الأسلوب استخدم بوتين أسلوبه القانونى فى الداخل، ومع أنه لم يغير الدستور الروسى كى يسمح لنفسه بالبقاء فى الرئاسة للمدة التى يرغبها، فإنه أقر أحد أعوانه وهو ميدفيديف للعمل كرئيس لفترة رئاسية واحدة عاد بعدها إلى الكرملين.
وحتى الأقلية المتسلطة من كبار أصحاب المال داخل روسيا ذاقوا هذا الأسلوب عندما رغب بوتين فى الاستحواذ على جزء من ثرواتهم التى بنوها عبر طرق تبدو غير قانونية. وبدلا من استخدام سبل غير قانونية للضغط عليهم عقد بوتين لهم مأدبة عشاء فاخرة وعرض عليهم ملفات قانونية للغاية تحمل تفاصيل انتهاكات اقترفوها بحق كل قانون روسى يمكن تخيله. وبعد ذلك جرت دعوتهم بكل أدب ولطف للاختيار بين التشارك فى ثرواتهم ومساعدة الدولة فى مشروعاتها أو السجن.
بجانب ذلك فإن بوتين يحرص على جعل نفسه عنصرا يتعذر الاستغناء عنه لضمان تحقيق نجاحاته التكتيكية.
من جهتهم، يحتاج ملالى إيران بوتين كحامٍ لهم فى مواجهة الذئب الشرير القابع فى واشنطن.
أما بشار الأسد فيدين بحياته للرئيس الروسي، كما يحتاج بنيامين نتنياهو الرئيس الروسى للإبقاء على المرتزقة اللبنانيين والأفغان والباكستانيين عند أبعد نقطة ممكنة عن خط وقف إطلاق النار الإسرائيلي.
كما يحتاج رجب طيب أردوغان لبوتين ليدعم خيالاته بخصوص ضرورة بناء «تحالفات جديدة» بعيدا عن حلف «الناتو» والولايات المتحدة التى لفظته فى الفترة الأخيرة وانقلبت عليه وعلى خدماته.
ويحتاج إليه أيضا قادة الدول المطلة على بحر قزوين كى يضمنوا عدم سحبه البساط من تحت أقدامهم. وبالرغم من كل صيحات الانتقادات الصادرة عنهم، يحتاج الأوروبيون هم أيضا لبوتين للحفاظ على تدفق الطاقة الرخيصة إلى اقتصادياتهم.
وبالنظر إلى كل ذلك، يمكننا القول إن بوتين أحرز بالفعل نجاحا كبيرا حتى الآن.
ومع ذلك فإن كل هذا ليس كافيا لتحديد ما يمكن أن يحمله الأمد الأطول. ويزخر التاريخ بحالات من الانتصارات التكتيكية انتهت بهزائم استراتيجية.
الجدير بالذكر هنا أن رتبة بوتين داخل جهاز الاستخبارات السوفياتية (كيه جى بي) كانت لفتنانت كولونيل أى رتبة المقدم. ومثلما هو معروف لدى المؤرخين العسكريين فإن الانتصارات التكتيكية غالبا ما تأتى على أيدى أصحاب رتبة الكولونيل، بينما لا تتحقق الانتصارات الاستراتيجية – وهى الأهم والأبقى - إلا على يد «جنرال»، حفظ الله مصر وشعبها وجيشها.