توقفت كثيرًا أمام حالة الاستقطاب الحادة لدينا فى تناولنا للرهبنة خاصة بعد مصرع أسقف دير أنبا مقار، حتى من غير المهتمين بهذ المنظومة، وكثيرهم لا تتجاوز علاقتهم بالكنيسة هامش العادية والمناسباتية، فإذا استثنينا الفرقاء المحتربين من المشهد الصاخب نجدنا أمام فريق ثالث ذهب إلى اسقاط كل اخفاقاته وأحلامه المثالية الحياتية والروحية غير المحققة على الرهبنة والأديرة، يطالبها بأن تكون هى البديل الذى يترجمها ويحققها، فتراه حادًا فى تقييم واقعها ومغرقًا فى استحضار النموذج التاريخى الآبائى، ومقارنته بما هو حادث ـ
أو بالقدر الذى يعرفه عنه ـ فيجد لنفسه تبريرًا وأنه أفضل كثيرًا من كل هؤلاء.
فيما يذهب البعض إلى التعامل معها باعتبارها مجتمعا بشريا شأن كل التجمعات البشرية النوعية ويبرر ما اعتراها من ترهل ومفارقة لضوابطها الأساسية بأنه متسق مع التغيرات الإجتماعية ومعطيات الحياة المعاصرة، وفقًا لنظرية الأوانى المستطرقة.
بينما يطالب آخرون بمراجعة التزامات وأسس تلك المنظومة بالقدر الذى يحولها إلى خدمة المجتمع خارج اسوارها، فما الفائدة التى تعود علينا ـ كنيسة ومجتمعا ـ من وجود نفر من الناس انقطعوا عن العالم ولديهم امكانات وقدرات تبقى حكرًا عليهم بينما البقية يهلكون جوعًا روحيًا وماديًا؟
ولا يتنازل فريق آخر عن المطالبة أن يعيد انتاج رهبنة القرن الرابع كما هى، دون أن يعترف بما اعترى الحياة من متغيرات سواء فى الشكل أو المضمون، وبغير أن ينتبه إلى أن "قلاية" ذاك الزمان لم تكن بعيدة كثيرًا عن مسكن المصرى البسيط آنذاك، فى هندستها ومبناها، بغير زخرف المدينة، وفى هذا نذكر ما قاله الأب متى المسكين حين انتهى من تجديد دير أنبا مقار ردًا على منتقديه لتوفيره "قلاية معاصرة" لرهبان الدير، تتوافر فيها مستلزمات المعيشة الأساسية، ومرافقها الحيوية، المياه النظيفة والكهرباء، وسرير ومكتب وبضع ارفف لكتبه وأوراقه، ومكان للجلوس، فكان رده أنه لا يعاقب الراهب على رهبنته ولا يسلمه لصراع يشتهى فيه هذه الاحتياجات بلا مبرر، وأن تصميم القلاية يضم الى جانب هذه الغرفة مكانا لا يزيد على كونه جدران وأرضية تسمى فى العرف الديرى "محبسة" يمارس فيها الراهب عباداته وقوانينه ونسكه، وكانت تعليماته لكل الرهبان واضحة ألا يضيف الى غرفتى قلايته شيئا أو يدق فى حوائطها مسمارًا فهو مجرد نزيل يقضى فيها أيامه، ثم تؤول إلى قادم جديد، امعانًا فى تأكيد قيمة "عدم القنية" و"التجرد". واللافت أن نموذج هذه القلاية انتقل إلى بقية الأديرة بدرجات متفاوتة.
والرهبنة بالضرورة مسار ينتهى إلى التعرف على شخص المسيح والحياة فيه، لكونه "الطريق والحق والحياة"، والتيقن أنه ليس بأحد غيره الخلاص، ولكونها "مسار" اختياريا فيتوازى معها مسارات أخرى تتحقق وتوجد وسط الناس، دون أن نجد انفسنا أمام مفاضلة بينهم، أو أن يفتخر مسار على آخر، "واما من افتخر فليفتخر بالرب، لانه ليس من مدح نفسه هو المزكى بل من يمدحه الرب" (2 كو 10: 17).ـ
وقد واجهت رهبانيات عديدة فى كنائس تقليدية أخرى ما استجد فى الحياة خارج وداخل الكنيسة، وتطور انماط الخدمة الكنسية وتشابكها، واستطاعت أن تعظم الاستفادة من طاقات الرهبنة السوية، والتى فيها استطاع الراهب ـ والراهبة ـ أن ينتصر على الذات والطموحات والشهوات ومغازلات الامتلاك وتداعياته، وثلاثية "شهوة العين، شهوة الجسد، تعظم المعيشة"، بحسب كلمات القديس يوحنا، التلميذ الذى كان يسوع يحبه، "لا تحبوا العالم ولا الاشياء التي في العالم. ان احب احد العالم فليست فيه محبة الاب، لان كل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الاب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، واما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت الى الابد" ( 1يو 2: 15ـ 17).ـ
خبرات وجهادات مواجهة هذه التحديات منحت هؤلاء طاقات وقدرات روحية هائلة، رأت تلك الرهبانيات أن توظفها فى خدمة النفوس فى العالم، وحتى تحافظ على النسق التقليدى للرهبنة، اتجهت إلى تأسيس نسق موازى يلتزم بمحاور الرهبنة فى ثلاثة منها، دون العزلة أو التوحد، فكانت حركة التكريس فى العالم، أو كما يسميها البعض "الرهبنة الخادمة"، ووضعت لها ما يناسبها من قواعد وضوابط، لتنطلق إلى العالم تخدم وتقدم المسيح للكل، على غرار السامرى الصالح الذى أشار إليه المسيح فى أمثاله التى كان يضربها للناس، ونجحوا فى أن يقدموه هو للفقير والمريض والحزين، وكل من هم فى ضيقة، تحت أصعب الظروف فى مجاهل القارات وفى وسط اهوال الحروب والكوارث الطبيعية.
وبقيت الرهبنة، فى صورتيها؛ الحبيسة والخادمة، ملتزمة بالقواعد النسكية التى استقرت من خبرات الآباء المؤسسين ومن تتابعوا عليها من معلمين ورموز عبر القرون المتعاقبة، وهى قواعد لم تقع فى أسر التنظير بل قدمت خبرات عملية على الأرض.
واتوقف مع اثنين منهم، أحدهما من مؤسسى الرهبنة فى مصر من تلاميذ القديس انطونيوس الكبير، هو القديس مقاريوس، (القرن الرابع)، بينما الثانى هو القديس يوحنا الدرجى السينائى (من منتصف القرن السادس إلى منتصف القرن السابع)، من أعلام الروم، وتولى فى شيخوخته رئاسة ديرسانت كاترين بسيناء، ترك لنا ق. مقار رسالة كان قد أرسلها لأولاده الرهبان (سنخصص لها الفصل القادم)، بينما ترك لنا ق. يوحنا كتاب "سلم السماء"، وكلاهما يرسم خارطة طريق للرهبنة بعمق. ويرى البعض أن خبرات سيناء المتشبعة بالزخم المصرى انطلقت إلى اليونان، هاربة بها إلى جبل آثوس، على غرار هروب العائلة المقدسة إلى مصر من بطش هيرودس الذى كان يطلب نفس الصبى، لتحميها من بطش القادمين من الشرق، فتتكامل رهبنة الإسقيط والبحر الأحمر مع رهبنة اليونان، وتزدهر منها الى الغرب. ويبدو أن ترتيبًا إلهيًا كان يرسم خطوط حفظ التراث الآبائى فى حاضنة يونانية بعيدًا عن تأثيرات الانقطاعات المعرفية التى ترتبت على الانتقال القسرى عندنا إلى العربية فيما بعد بشكل تعسفى.
أو بالقدر الذى يعرفه عنه ـ فيجد لنفسه تبريرًا وأنه أفضل كثيرًا من كل هؤلاء.
فيما يذهب البعض إلى التعامل معها باعتبارها مجتمعا بشريا شأن كل التجمعات البشرية النوعية ويبرر ما اعتراها من ترهل ومفارقة لضوابطها الأساسية بأنه متسق مع التغيرات الإجتماعية ومعطيات الحياة المعاصرة، وفقًا لنظرية الأوانى المستطرقة.
بينما يطالب آخرون بمراجعة التزامات وأسس تلك المنظومة بالقدر الذى يحولها إلى خدمة المجتمع خارج اسوارها، فما الفائدة التى تعود علينا ـ كنيسة ومجتمعا ـ من وجود نفر من الناس انقطعوا عن العالم ولديهم امكانات وقدرات تبقى حكرًا عليهم بينما البقية يهلكون جوعًا روحيًا وماديًا؟
ولا يتنازل فريق آخر عن المطالبة أن يعيد انتاج رهبنة القرن الرابع كما هى، دون أن يعترف بما اعترى الحياة من متغيرات سواء فى الشكل أو المضمون، وبغير أن ينتبه إلى أن "قلاية" ذاك الزمان لم تكن بعيدة كثيرًا عن مسكن المصرى البسيط آنذاك، فى هندستها ومبناها، بغير زخرف المدينة، وفى هذا نذكر ما قاله الأب متى المسكين حين انتهى من تجديد دير أنبا مقار ردًا على منتقديه لتوفيره "قلاية معاصرة" لرهبان الدير، تتوافر فيها مستلزمات المعيشة الأساسية، ومرافقها الحيوية، المياه النظيفة والكهرباء، وسرير ومكتب وبضع ارفف لكتبه وأوراقه، ومكان للجلوس، فكان رده أنه لا يعاقب الراهب على رهبنته ولا يسلمه لصراع يشتهى فيه هذه الاحتياجات بلا مبرر، وأن تصميم القلاية يضم الى جانب هذه الغرفة مكانا لا يزيد على كونه جدران وأرضية تسمى فى العرف الديرى "محبسة" يمارس فيها الراهب عباداته وقوانينه ونسكه، وكانت تعليماته لكل الرهبان واضحة ألا يضيف الى غرفتى قلايته شيئا أو يدق فى حوائطها مسمارًا فهو مجرد نزيل يقضى فيها أيامه، ثم تؤول إلى قادم جديد، امعانًا فى تأكيد قيمة "عدم القنية" و"التجرد". واللافت أن نموذج هذه القلاية انتقل إلى بقية الأديرة بدرجات متفاوتة.
والرهبنة بالضرورة مسار ينتهى إلى التعرف على شخص المسيح والحياة فيه، لكونه "الطريق والحق والحياة"، والتيقن أنه ليس بأحد غيره الخلاص، ولكونها "مسار" اختياريا فيتوازى معها مسارات أخرى تتحقق وتوجد وسط الناس، دون أن نجد انفسنا أمام مفاضلة بينهم، أو أن يفتخر مسار على آخر، "واما من افتخر فليفتخر بالرب، لانه ليس من مدح نفسه هو المزكى بل من يمدحه الرب" (2 كو 10: 17).ـ
وقد واجهت رهبانيات عديدة فى كنائس تقليدية أخرى ما استجد فى الحياة خارج وداخل الكنيسة، وتطور انماط الخدمة الكنسية وتشابكها، واستطاعت أن تعظم الاستفادة من طاقات الرهبنة السوية، والتى فيها استطاع الراهب ـ والراهبة ـ أن ينتصر على الذات والطموحات والشهوات ومغازلات الامتلاك وتداعياته، وثلاثية "شهوة العين، شهوة الجسد، تعظم المعيشة"، بحسب كلمات القديس يوحنا، التلميذ الذى كان يسوع يحبه، "لا تحبوا العالم ولا الاشياء التي في العالم. ان احب احد العالم فليست فيه محبة الاب، لان كل ما في العالم: شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الاب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، واما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت الى الابد" ( 1يو 2: 15ـ 17).ـ
خبرات وجهادات مواجهة هذه التحديات منحت هؤلاء طاقات وقدرات روحية هائلة، رأت تلك الرهبانيات أن توظفها فى خدمة النفوس فى العالم، وحتى تحافظ على النسق التقليدى للرهبنة، اتجهت إلى تأسيس نسق موازى يلتزم بمحاور الرهبنة فى ثلاثة منها، دون العزلة أو التوحد، فكانت حركة التكريس فى العالم، أو كما يسميها البعض "الرهبنة الخادمة"، ووضعت لها ما يناسبها من قواعد وضوابط، لتنطلق إلى العالم تخدم وتقدم المسيح للكل، على غرار السامرى الصالح الذى أشار إليه المسيح فى أمثاله التى كان يضربها للناس، ونجحوا فى أن يقدموه هو للفقير والمريض والحزين، وكل من هم فى ضيقة، تحت أصعب الظروف فى مجاهل القارات وفى وسط اهوال الحروب والكوارث الطبيعية.
وبقيت الرهبنة، فى صورتيها؛ الحبيسة والخادمة، ملتزمة بالقواعد النسكية التى استقرت من خبرات الآباء المؤسسين ومن تتابعوا عليها من معلمين ورموز عبر القرون المتعاقبة، وهى قواعد لم تقع فى أسر التنظير بل قدمت خبرات عملية على الأرض.
واتوقف مع اثنين منهم، أحدهما من مؤسسى الرهبنة فى مصر من تلاميذ القديس انطونيوس الكبير، هو القديس مقاريوس، (القرن الرابع)، بينما الثانى هو القديس يوحنا الدرجى السينائى (من منتصف القرن السادس إلى منتصف القرن السابع)، من أعلام الروم، وتولى فى شيخوخته رئاسة ديرسانت كاترين بسيناء، ترك لنا ق. مقار رسالة كان قد أرسلها لأولاده الرهبان (سنخصص لها الفصل القادم)، بينما ترك لنا ق. يوحنا كتاب "سلم السماء"، وكلاهما يرسم خارطة طريق للرهبنة بعمق. ويرى البعض أن خبرات سيناء المتشبعة بالزخم المصرى انطلقت إلى اليونان، هاربة بها إلى جبل آثوس، على غرار هروب العائلة المقدسة إلى مصر من بطش هيرودس الذى كان يطلب نفس الصبى، لتحميها من بطش القادمين من الشرق، فتتكامل رهبنة الإسقيط والبحر الأحمر مع رهبنة اليونان، وتزدهر منها الى الغرب. ويبدو أن ترتيبًا إلهيًا كان يرسم خطوط حفظ التراث الآبائى فى حاضنة يونانية بعيدًا عن تأثيرات الانقطاعات المعرفية التى ترتبت على الانتقال القسرى عندنا إلى العربية فيما بعد بشكل تعسفى.