رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

خبرة المُقَدسْ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بحث كثير من المفكرين فى بنية المجتمعات الذهنية والثقافية، وتعرض عدد منهم إلى كشف النسيج الأسطورى الذى تتشابك فيه الأسطورة مع الفلسفة والسحر والدين؛ وإلى كيفية تداخل هذه الأمور جميعًا لتشكل مجتمعة – أو متعارضة – نمطًا معينًا من التفكير والسلوك المعارض للعقلية العلمية. كما أن عددًا من المفكرين تعرض بدراسته إلى جذور بعض المعتقدات والأفكار التى يعيش عليها المجتمع، وأصول هذه الأفكار والمعتقدات ومسبباتها. غير أن مثل هذه الدراسات كانت نادرة فى بعض المجتمعات، ويعتبرها – هذا البعض – محرمة ومن عمل الشيطان؛ لا سيما أن أمثال هذه المجتمعات ما زالت تعيش على مقدسات وأفكار لا يسمح معها بإعمال حكم العقل أو بمناقشة موضوع من الموضوعات المقدسة فى عرضها على هدى هذا العقل ومنطقه.

لكن نظرة فاحصة يلقيها الإنسان على مسيرة حياته وبنية مجتمعه، توضح أنه ما زال يعيش فى عالم ثنائى من الخيال والغيبيات. وهو – فى وجوده – أسير لأساطير ومحرمات ومقدسات تتناول كل مقومات هذا الوجود، وإنه ما زال يعانى تسلط واستبداد أفكار أشخاص تفصله عنهم مئات السنين. ويندر أن يتساءل أحد: لماذا وصّْف ذلك الشيء بالحلال والمقدس وذلك الشيء بالمدنس والحرام؟ لماذا اعتبر هذا المكان وهذا الجبل وذلك الحجر مقدسًا فى حين وصف غيره أو وُصِفَت ظاهرة طبيعية بكونها مجردة من القداسة.

كشف «ميرسيا إلياد» - الباحث فى تاريخ الأديان وعلم الأساطير - عن الكثير من الأوهام التى تعانى منها بعض المجتمعات، والتى يجب نزعها من الرؤوس التى تعشش فيها؛ مع غيرها من الأساطير الكثيرة التى يجب تعريتها من زمن طويل. وفى إطار ذلك، بين معالم الحدود لكثير من الأمور التى تعرض وجودها تحت عنوان «مقدس»، بينما هى – فى واقع الأمر – تنبع من ميثولوجيا ابتكرها الإنسان عبر تاريخه؛ وجعلها قيدًا على فكره وحريته. وفى كتابه «المقدس والدنيوى»، انكب «إلياد» على تحليل أشكال الخبرة الدينية، ونجح فى إظهار محتواها وبيان خصائصها النوعية. وسعى إلى تقديم ظاهرة «المقدس» بكل تعقيداتها وفى تعارضها – أيضًا – مع ما هو دنيوى أو مدنس. يقول: «كيف يمكن للنفس البشرية أن تتحرك دون الاقتناع بوجود شيء حقيقى لا يمكن إنقاصه فى هذا العالم؟ كيف يمكن للشعور أن يبدو دون أن يضفى دلالة حقيقية لتجارب الإنسان؟ إن الشعور بعالم حقيقى وذى معنى مرتبط – أساسًا – باكتشاف المقدس. ومن خلال خبرة المقدس أدركت النفس الفارق بين ما يكتشف على أنه حقيقى وذى معنى قوى، وبين ما هو دنيوى (أو مدنس) ومجرد من كل خصائص القداسة».

أصبح الإنسان غارقًا – كما يرى إلياد – فى خضم عالم موسوم بما هو مقدس وما هو دنيوي، وكان كل ما يصبو إليه هو المشاركة الفعلية لتجليات القداسة التى توفرها له مشاركته فى طقوس البدايات التكوينية للعالم؛ أو فى إعادة تمثيله لأدوار الخلق الأول عن طريق ممارسة الطقوس، وإعادة الرواية السردية الأسطورية. وعلى حد قوله: « ظل الإنسان، طوال آلاف السنين – يعمل عن طريق الطقس؛ ويفكر فى أوجه الشبه بين العالم الأكبر والعالم الأصغر... وهو إذ يفعل ذلك، فإنما يساهم فى قدسية الكون».

والعالم القديم كان يجهل «الفعاليات الدنيوية غير المقدسة»، فكل عمل يحمل دلالة محددة، إنما يشارك على نحو ما فيما هو مقدس. فبدءًا من أعمال القنص والصيد، مرورًا بالأعمال المختلفة والاشتراك فى القتال، وصولًا إلى النشاط الجنسي؛ كل هذه الأعمال يمكنها أن تشترك إلى الفعل المقدس الأول وترمز إليه. وكل حدث أو سلوك أو فعل هو تمثيل أو محاكاة – عند القدماء – لحدث ملحمى مقدس. وتكرار النزاع بين البشر لا يتعدى أن يكون سوى محاكاة للطراز الأول من النزاع، وهذا ينسحب على قداسة المكان. والممارسة الطقوسية المرافقة لتشييد بناء ما، إنما هى تكرار للبناء الأسطورى الأول الذى تم فى بدء الخلق. والقيمة السحرية لبعض الأعشاب تعود إلى اقترانها بنموذج سماوى أول خاص بالنبات، كذلك الآثار الفنية هى تقليد من الدرجة الثانية للروائع الفنية الأولى؛ لذلك يرى «إلياد» أن: «أى موضوع من الموضوعات أو فعلًا من الأفعال لا يصير واقعيًا، إلا بمقدار ما يحاكى، نموذجًا أوليًا أو يكرره». على هذا الأساس، فإن بناء مقام دينى أو معبد هو تكرار لعملية الخلق الإلهى للكون؛ لا لأن المعبد يمثل الكون فقط، بل لأنه يمثل مختلف الأدوار الزمانية أيضًا، وهو تمثيل من الدرجة الثانية لعملية الخلق الإلهية».

وإذا انتقلنا إلى الديانات التوحيدية، فإن الالتباس والاختلاط – كما يرى إلياد – ينحسر عندها بين المقدس والدنيوي؛ فى الظواهر الكونية، وتتضح معالم الحرام والحلال. فتبقى بعض الأماكن تمثل موقع القداسة عند المؤمنين، ذلك لأنها تمثل صورة من الدرجة الثانية لمكان سماوي. وتصبح بعض حوادث التاريخ ذات دلالة على رضا الله، إن كانت تحمل المسرة لأصحابها؛ وبعضها الآخر يحمل الدلالة على غضب الله، إن كانت ذات طابع كارثى [مثل الأسر البابلى – واجتياز البحر الأحمر – وغزو بلاد كنعان – والرجوع من المنفى]. وفضلًا عن ذلك، فإن الديانات التوحيدية أدخلت فى الخبرة الدينية مقولة الإيمان التى قادت إلى أعلى درجات الحرية التى تصدر عن الله.

أما الإنسان فى العصر الحديث – كما بين إلياد – فقد جرد العالم من القداسة، وأصبح ينظر إلى المقدس بوصفه عقبة أمام تحقيق الحرية؛ وهو لم يصبح ذاته إلا فى اللحظة التى سيعود فيها عقله إلى رشده. وكما قال: «لن يكون الإنسان حرًا حقًا إلا فى اللحظة التى سيقتل فيها آخر إله». إن الإنسان الحديث [أو الإنسان الدنيوي] يتعرف على ذاته عندما يتحرر أو يتطهر – إن صح التعبير – من أساطير أجداده، ويحيا فى عالم غير العالم الذى كان أجداده قد عاشوا فيه؛ لكنه – فى رأى «إلياد» – ما زال ممتزجًا بالوقائع الأسطورية التى رفضها، وسواء أراد أم لم يرد فهو ما زال يحافظ على ملامح سلوك الإنسان المتدين. من هنا، كان الهدف هو استعادة الأزمان المقدسة وزرعها فى الزمن الحالي، من أجل الحياة فى عالم نقى متجدد؛ يشبه حالته عندما خرج من يد الخالق، ومن أجل إعادة تأسيس مستمرة لهذا العالم.