تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يتابع الروائى باتريك روجييه فى رواية «ليلة العالم»، التى يتناول فيها السيرة الذاتية والأدبية لنمطين من الكتاب الكبار، هما الأيرلندى جميس جويس، والفرنسى مارسيل بروست، والتى نقلتها إلى العربية جينا بسطا، والصادرة عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٦ بقوله: وكان يتساءل وهو يداعب المنظار المثبت فوق أنفه وذراعه يتدلى بطول جسده وساقاه معقوفتان: «أهناك ارتباط بين الإنسان والاسم الذى يحمله؟» فـ«الفرحة» فى الألمانية يقال عنها «فرويد»، وكان يعرف فرويد اسمًا وكان واردًا أن يصادفه فى مدينة ترياست حيث استقر لفترة ما. وكلمة «ترياست» تعنى أى تعيس فهى «ترياست التعيسة».
يقال أيضا: إن بروست كان يسكن الدور الرابع بالمنزل الذى استأجره، وهو نفس المنزل الذى كانت تسكنه من قبله الفنانة ريجان – اسمها الحقيقى جابربيلا ريجو – وقد كان معجبا بها، يجمع صورها كما صفق لها كثيرًا حين مثلت دور البطولة فى رواية «جرمينى لاسيرتوه».
وكان فى أثناء سكنه بذلك المنزل يمتع عيناه بممارسة هوايته فى التجسس على الجيران فى أثناء ممارستهم الجنس، حين يصدرون تأوهات عالية، حتى ليكاد يتصور من يتصنت عليهم أنهم يتعرضون للقتل.
ظل «جويس» يعانى سنتين من قرحة فى المعدة التى تؤلمه بشدة. فى الخامسة والعشرين من عمره أصيب بالتهاب القرنية وبالتهاب روماتزمى بحدقة العين كان يسبب له آلاما مبرحة. وفى زيورخ حيث كان يقيم فى عام ١٩١٨ فوق محل نظارات بشارع المحطة، أصيب بعدة تلفيات فى عينيه، ثم بنوبة جلوكوما، وقد نجح بصعوبة شديدة فى تلافى الخضوع لجراحة مكلفة جدا تكاد تكلفه «عينى رأسه».
فى فترات مماثلة كان بروست يشكو من آلام فى عينيه، ولكنه كان يرفض استشاره طبيب إختصاصى، لما كان يعتقد أنه مجرد مظهر من مظاهر الشيخوخة العادية، فأرسل النظاراتى القريب من مسكنه لـ«سيليستيا» باثنتى عشر زوجًا من النظارات ذات الزجاج المركب مسبقا دون قياس كى يمكنه من القراءة، فاحتفظ بما يناسبه منها دون الاهتمام بإعادة ما لم يناسبه بعد ذلك الطقس، كم من الجهود كان يستلزمها الوصول إلى مرحلة الخروج من شرنقته! كانوا يعتبرونه لفترة طويلة كاتبا هامشيا، فاقدا للمصداقية فى الأوساط الأدبية الباريسية، بل وانهالوا عليه باللعنات.
واتهموه بالكبرياء والتخلف والدجل والترف والنخبوية، والتردد والتراخى والانغلاق والتخاذل. اتهموه أيضا بقلة الخبرة وبالنرجسية والرغبة فى الظهور فى صالونات المجتمع الراقي، اعتبروه صحفيا ثرثارا من أصحاب العواميد بجريدة «الفيجارو»، حيث كان يوقع مقالاته باسم مستعار مثل «دومينيك» أو «هوراثيو» أو «باريس» كلها، «أوديب» يجيد فن المحاكاة فيسدد أوراقا بلا معنى، يغمد بوقاحة إلى السرقات الأدبية، وصولى متحذلق، أو مقامر عنيد لا سبيل إلى تقويمه.
وبما أنه سخر من نفسه قائلا: «بروست، ذلك الخنزير النجس»، فقد سخروا منه وشبهوه بالحيزبون المتصابية، واعتبروه مفسدا للذوق الفرنسي، ذلك لأن أدبه كان يتسم بالهلامية كمادة عالقة، كعنصر إسفنجي، بينما هو قد ضحى بحياته وبصحته من أجل عمله الروائي.
أنهى جويس روايته «يوليسيس» فى عام ١٩٢١، لقد أربكت الرواية النقاد ولم يسلم نفسه من النقد، فاتهموه بضيق الأفق، بل نعتوه بالجاسوس والمهرج الهابط، والسكير ومدمن الكوكايين الميئوس من شفائه، وآكل لحوم البشر والفوضوى والسيريالى، والمرائى معدوم الضمير، والتلميذ الأجرب، والعاجز والناشط البولشفى، ومصور المشاهد الجنسية الفجة والكاتب الداعر، والعالم الفظ الساخر الجاهل الفوضوى وحثالة المواطنين غير المواليين لإنجلترا، والأديب المحتال والطليعى غير المفهوم الذى يعبث بالقمامة، الكاتب اللقيط هادم اللغة صاحب العبقرية العقيمة البلهاء الذى نبت من الحثالة وتطارده الهواجس.
وذكر جويس لبروست: «الأدب رحب وممتد، واللغة أمة عالمية. مسكينة أنت يا أيرلندا، بلد حضارة الشمال القديمة، الأرض الرحبة، الكلمات ليس لها وطن، خنزيرة، الاغتراب قدري، ولا عزاء، لا، فالذى يرحل يصبح وحيدا، وحيدا، والكتابة هى اغتراب للنفس، والكاتب المنعزل ليس جزيرة، أهناك من لا يعانى من المنفى فى هذا العالم؟».. وللحديث بقية.