تتيح الصائفة (لكل مُريد) ما تيسر من وقت للقراءة والمطالعة، على ذلك خصصتُ ساعات فى يومى لمختارات من الكتب المُؤجلة بمكتبتى، ورقمتُها عناوينًا بمذكرتى الخاصة فى مواجهة لذاكرتى التى صارت تخوننى خيانة بائنة، كانت إجازة العيد فرصة لكتاب ليس فى جدولة مدونتى، بل ما نصحنى بمطالعته بتمعن قارئ صديق نهم، وجعله كتاب عامه ثراءً ومعالجة وقراءة موضوعية علمية فى مجاله، وكنا خضنا نقاشا حول قدم تاريخ الهجرات البشرية الشرعية والغير شرعية بل بأعداد تصل المليون، تفوق ما يُشتكى منه فى يومنا هذا وتقع بلدى ليبيا فى دائرة الاتهام والتوصيف المُسىء المُفتعل حد أنه يجرى إجبارها للتحول من دولة عبور إلى إقامة وإيواء فى تناقض صارخ بين أنها البلد المُتهم والملاذ الآمن!! مجمل نقاشنا عبر صفحة الـ«فيسبوك» أفضى إلى نصحى بقراءة الكتاب، ففيه ما يُجيب عن أسئلة كثيرة مرجعيتها تاريخ الإنسانية الممتد، ما يقيم وشائج وصلات بما نعيشه من متغيرات تصعد فى واجهتها الحروب والصراعات والانقسام والتغيير الديموغرافى وضحايا مدنيين بين قتلى ونازحين ومهاجرين.
ضمن سلسلة «عالم المعرفة» الصادرة عن المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب بالكويت، هو الكتاب المُستعار الخارج عن سرب كتبى هو الإصدار الشهرى (مارس 2018) وحمل عنوان «الشبكة الإنسانية نظرة مُحلقة على التاريخ العالمى» أما المؤلفان فأب وابنه مؤرخان عتيدان، أعلن الابن «جون روبرت مكنيل» لوالده «وليام هاردى مكنيل» فكرته الطموحة، وقد وجدت صداها عند الأب من اشتغالة مرتكزة وكُتب قيمة متعمقة فى تاريخ البشرية، تعاونهما معا مبتدأه ساعات ثم عدة سنوات من المناقشات المتواصلة والمتقطعة، والتى أفضت إلى حفر ونحت فى مسيرة التاريخ والحضارة والأديان، السياسة والاقتصاد، التجارة والنقل، الصحة والعلوم الطبيعية، الاتصال والتقنية، ليكشف بجلاء وبرهنة عن الأنماط الواسعة للصراع والتنافس والتعاون والتواصل البشرى الذى أنتج شبكة من التفاعلات والتأثير والتبادل الإنسانى أوصلت تاريخنا العالمى إلى ما نحن فيه، فرؤيتهما للتاريخ الإنسانى كشبكة نتجت عبر انتقال الأفكار والتقنيات والطموحات بين الجماعات البشرية الذين تعارفوا وتواصلوا، تنافسوا وتصارعوا، ما أسهم فى تقدمهم، وحسب المؤرخين فقد انتقل مركز الشبكة (مركز الحضارة) من منطقة إلى أخرى بدءا من ممر «النيل – السند»، ومع كل انتقال كانت الشبكة تزداد إحكاما وكثافة وتزيد المجتمع الإنسانى تعقيدا (التحضر) فما وصلنا إليه هو نتاج لإسهام كل الثقافات والأمم.
الابن «جون» الذى يتقدم اسم الأب «وليام» على غلاف الإصدار الأصل والمترجم، يحقق للقارئ مستهدفه الرئيس الجامع للمصادر من كتب مختلفة مرصوصة بالأرفف لينجزه برؤية أصيلة فى كتاب واحد، عبر سؤاله كيف وصل العالم إلى ما صار إليه حاليا؟ وما يمكن أن يصير إليه مستقبلا؟ عن زمان ومكان ومسببات الحضارات، عن قوة الإسلام التوحيدية للعالم، عن اختراع الزراعة سبع مرات فيما لم تكن الحاجة لاختراع المحرك البخارى أو الإنترنت إلا مرة واحدة، وعن الوسائط والشبكات المحكمة أوالمخلخلة التى ساهمت فى انتقال البشر والأفكار والسلع والقوة والمال داخل الثقافات والمجتمعات والأمم وعبرها، ما أوصل البشر إلى ما نشهده من قوة وثراء فى عديد دول بجغرافيا عالمنا، سنقرأ ذلك تتاليًا عبر ثمانية فصول وبحيز يشغل 560 صفحة، لا تقدم معلومات مستعادة قد تشعرنا بالتطور الدائرى للتاريخ فقط، لكنها تمعن النظر وتكشف بعين متفحصة مسار تلك الشبكة الإنسانية من أقدم فترات التطور الإنسانى قبل أحد عشر ألف سنة، وحتى اللحظة الراهنة والتى يُدبجها الأب «وليام» بخاتمة تعكس تأملات المؤرخ حول الممكنات بعيدة المدى للتاريخ العالمى والشبكات.
لعل المتعة التى يمنحها الكتاب، تلك القصص الملتقطة والنماذج المعززة لمبدأ الشبكة الإنسانية من تاريخ العالم، والتى تثبت بشكل أو بآخر معنى التواصل والاتصال بين جغرافيا العالم فى لحظة ما، بل حتى التنافر المفضى إلى خلق للذات وممارسة للاكتفاء وتقوية الداخل في مواجهة لقوى تتخذ من سلطة العنف مبررا للاحتواء وتوسيع رقعتها، وحين يفقد المتساهل والمنعزل حقه حد الانقراض والاختفاء، وفى قصص الحروب والنزاع والتوسع والتحديات التى ترافقت مع خطوط التجارة والنقل والمواصلات، والهجرة البشرية المتعددة الأسباب سيلفتنا ذلك التفاعل البشرى / الجغرافى المتنوع بأبنيته المعقدة المحفوفة بالمخاطر، وبما ولدته من تفاوت وتمايز مجتمعى لا مناص منها فتشكل التاريخ الإنسانى لا تنجو فيه المجتمعات البسيطة التى تهضمها مجتمعات (متحضرة) أشد تعقيدا!
يدعونا الكتاب لاتباع نهج أسلافنا بأن نبرع فى بناء التحالفات والتنافس، وأن نتسلح بمهارات تواصلية واجتماعية من أجل تحقيق بقاءنا ومواجهة الكوارث، فعالمنا اليوم تغذيه تدفقات هائلة من الغذاء والمعلومات والطاقة وأخطار أخرى.