«البشر يميلون إلى التصرف بطريقة تجعل الحيوانات تشعر بالخجل»، من قناعته تلك لم يبذل صاحب المدارين أى جهد ليقنع الناس بوجهة نظره عن الأشياء، ولا لمعالجتها، ولم يشعر أيضًا بالفوقية لأنهم يفتقدون الذكاء، كما كان يبدو له.
لم يرَ ثمة غرابة فى مشاهد الجثث المتفحمة الطافية فوق شاشات التلفاز -صباح مساء- على يد هواة الحرائق ومحترفى المآسي، لأنه رأى أننا يمكننا أن نحارب الشر، لكننا أمام الغباء لا نستطيع فعل شيء، لقد تقبّل الحقيقة، كما هي: البشر يميلون إلى التصرف بطريقة تجعل الحيوانات تشعر بالخجل.
المثير للسخرية -وللألم معًا- هو أننا غالبًا نتصرّف منطلقين- بشكل منحط- مما نسميها الدوافع العليا، الحيوان لا يبرر قتل ضحيته، أما الحيوان البشرى فيذكر اسم الرب حين يذبح أخاه الإنسان، ينسى أن الرب لا يقف على جانبه، بل يقف إلى جانبه.
اتخذ من المرح وسيلة للتألق ومن الحب سبيلًا للحياة، ورأى أن أيًا منا إن كان لا يزال قادرًا على الحب، وقادرًا على مسامحة والديه اللذين ارتكبا جريمة إحضاره إلى هذا العالم، وإن كان قنوعًا بمكانه، وباستقبال أيامه كيفما جاء بها القدر، وإن كان قادرًا على الغفران والنسيان، إن استطاع أن يكبر من دون أن يصبح رجلًا فجًا، عابسًا، متشائمًا يشعر بالمرارة، فقد قطع نصف الطريق!
الحب هو ما أوصله للحقيقة.. الطريقة المثلى للعيش فى هذا الكوكب التعيس، ولطالما كان شعاره: «امرح دائمًا وتألق»، ولعل هذا هو السبب الذى لم يجعله يملّ من تكرار مقولة رابليه: «بقدر آلامك، أمنحك الفرح».
أحب هنرى ميللر، وأناييس -دافعه الأبدى للكتابة ومجاراة الحياة- يبث لها همومه، وعزلته وأفكاره، لها ومعها كتب مداراته لها ومعها تألق وبلغت كلماته الآفاق:
«.. إننى أتعرَّض للمقاطعة على الدوام. سوف أحاول أنْ أتابع فى المنزل، إنهم فضوليون هنا بحيث أنَّ عليّ أنْ أكتب أكثر، إنهم يعتقدون أننى نهِم إلى العقاب، ويسألوننى لماذا لا أذهب إلى المنزل آناييس، فى استطاعتى أنْ أمكث هنا طوال الليل وأكتب لك، إننى أراك أمامى دائمًا، ورأسك منكَّس ورموشك الطويلة منسدلة على وجنتيك، وأنا أشعر بأننى شديد التواضُع، ولا أعلم لِمَ اخترتنى - إنَّ هذا يُحيّرني، ولكن لا أريد أنْ أُمعن التفكير، لقد طردتنى والآن لم يعد فى استطاعتى أنْ أعود إلى ما كنت فى السابق، مجرد صديق، أكنتُ يومًا مجرد هذا؟ يبدو لى أنه من البداية الأولى، عندما فتحتِ الباب ومددتِ يدكِ، مبتسمة، أُسِرتُ، أصبحتُ ملكك، جون أيضًا شعرت بذلك. قالت على الفور إنكِ عشِقتني، أو أننى عشقتكِ، ولكن أنا نفسى لم أعلم أنه كان حبًا، تحدثتُ عنكِ بكل حماس، بلا تحفّظ، ثم قابلتكِ جون ووقعتْ فى شباك حبّك، وانزعجتُ قليلًا، ليس بسبب جون، بل بسببك. وعندما أتيتُ إلى منزلك وبكيت، عندما تمشيتُ فى الغابة معك، كنت أضمرُ تحت حزنى ويأسى رغبة دفينة فى أنْ أضمك بين ذراعيّ، لجعلك تحبينني، ولكنَّ كلماتك الأولى جمّدتني، قلتِ: «نحن نشتاق إليها»، مررت بلحظة رعب-أنت تعرفين هذا كله، ولستُ فى حاجة إلى شرحه، لكننى لم أبتعد عنك، وللمرة الأولى فى حياتى كنتُ أُصغى إلى شخص يقول هذه الأشياء دون أنْ أكره ذلك الشخص، كان فى وسعى أنْ أسامحك على أى شيء.. وما أزال أستطيع ذلك.
أعود إلى الغرفة وما أزال محمومًا، بحثتُ فى كل مكان عن الرسالة، لا استطيع حتى الآن أنْ أكتب لك رسالة. أسمع المولِّد يدور خارج النافذة. ثمة ظاهرة غريبة فى الخارج -هناك مبنى يتوهّج كمعدن حامٍ وبعده منزل بلون أبيض ناصعًا، لبنيًا، والباقى يطفو فى الفحم، أتلفّت حولى فى الغرفة لأرى ماذا فى وسعى أنْ أقدِّم لك، لا أرى إلا اللوحات المائية وملاحظات- ملاحظات فى كل مكان، وخلفها اسمك- أرى هذه لآناييس، اسأل آناييس، قابل آنابيس.
أويتُ إلى السرير لكنَّ النوم جافاني، نهضتُ من جديد، أرتعش، مع رغبة فى الكتابة، كان الوقت فجرًا والزُرقة تصبغ كل شيء، أمامى مُقتطفات من توماس هاردي، وهى تقريبًا آخر ما اهتممتُ به، وها أنا ذا، ماذا أرى؟».