نختم حديثنا حول ظروف وملابسات اتفاقية «سايكس – بيكو» ونتائجها ببعض الأحداث والمؤتمرات المتتالية التى رسخت لنتائج وآثار الاتفاقية، وكان أولها خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كانت «حكومة صاحب الجلالة البريطانية» تحرص مرارًا وتكرارًا على التأكيد على حقوق العرب فى الحرية والاستقلال، ففى ١٥ يناير عام ١٩١٨ أعلن لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا، فى خطاب عام «أن بريطانيا تعترف بحق فلسطين وسوريا والعراق فى الحرية والاستقلال وتكوين حكومات وطنية!»
وفى ٨ فبراير ١٩١٨ أرسل بلفور – صاحب الوعد الشهير – برقية إلى الشريف حسين باسم الحكومة البريطانية ودول الحلفاء، جاء فيها «تؤكد حكومة صاحب الجلالة البريطانية مرة أخرى وعودها السابقة بتأييد استقلال العرب، ومساعدة البلاد العربية التى لم تنل استقلالها فى أن تحصل عليه عقب الحرب».
والحقيقة أن أغراض الحلفاء كانت عكس ما وعدوا به العرب، واقتسام الولايات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية وجعلها مناطق نفوذ، وتهيئة فلسطـين لتكون الدولة الموعودة للعصابات الصهيونية!
فى ذلك العام تحديدًا، حاول الأمير فيصل بن الحسين أن يشمل لبنان بسلطته العربية، فأرسل شكرى الأيوبى ممثلًا عنه إلى بيروت، ورفع الوطنيون العلم العربى هناك فى ٣ أكتوبر ١٩١٨ تأكيدًا لعروبة لبنان، وكانت هذه الحادثة «التاريخية» قبيل دخول القوات البريطانية والفرنسية إلى بيروت ببضعة أيام، فأثار ذلك غضب فرنسا، التى ضغطت على الجنرال اللنبى ليأمر بإنزال العلم.. مما ولد هياجًا فى صفوف الجيش العربى وبين أبناء الشعب العربى، وزاد من حالة الغليان ما ذاع من أن بيروت ومدن الساحل السورى ستوضع تحت الاحتلال الفرنسى، مع توارد الأنباء بزيادة نشاط الصهاينة فى فلسطين، فاجتمع فيصل بالجنرال اللنبى، وأعلن أنه لا يستطيع كبح جماح القوات العربية إلا إذا أصدرت الدولتان المتحالفتان على الفور بيانًا رسميًا يتضمن «صدق نياتهما» وأصبح لحادثة العلم صدى واسعا بين الأوساط العربية التى اعتبرتها تأكيدًا لسوء نيات الحلفاء، التى أفصحت عنها اتفاقية سايكس – بيكو، ووعد بلفور.. وأمام تطور الأوضاع المنذرة بالخطر، اتفق كل من إنجلتر وفرنسا على إصدار بيان فى ٧ نوفمبر ١٩١٨ يطمئن العرب فى العراق وسوريا وفلسطين، ويؤكد عزم الحلفاء على تحرير الشعوب العربية «وتأليف حكومات وطنية منتخبة وتحقيق العدالة للجميع ونشر التعليم وتسهيل مهمة الحكومات التى ينتخبها الشعب بحرية»! وروج الحلفاء لهذا البيان فطبعت منه كميات هائلة ألصقت فى الأماكن العالية ونشرت فى الصحف المحلية، وتلى شفهيًا من الموظفين العرب على جماهير الأميين.
مؤتمر لندن
عقد هذا المؤتمر فى ١٢ فبراير ١٩٢٠ فى أجواء نبذت فيها دول الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية) ميثاق عصبة الأمم وتجاهلت وعودها قبل الحرب وخلالها بتحرير الشعوب العربية والاعتراف بحقها فى تقرير مصيرها، وعقدت جلسات المؤتمر على أساس توزيع الغنائم حسب اتفاقية «سايـكس – بيـكو» وبحثت فى حصة كل دولة من الغنيمة، وانفض المؤتمر فى ٣ مارس تاركًا مهمة إكمال توزيع الحصص وتفاصيلها إلى لجنة فرعية برئاسة لورد كيرزون وزير خارجية بريطانيا والتى عقدت ٥٠ جلسة فى إحدى ضواحى باريس ١٩١٩ وأنهت أعمالها بوضع معاهدة فرضها الحلفاء على تركيا باسم «معاهدة سيفر» التى شملت المنطقة العربية بين البحر المتوسط غربًا والحدود الإيرانية شرقًا.. وفيها تم سلخ فلسطين عن سوريا، وقد اتفق الحلفاء بعد تقسيم المنطقة «على وضع فلسطين تحت انتداب دولة ينتخبونها، وهذه الدولة تكون مسئولة عن تنفيذ وعد بلفور بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين»!
مؤتمر سان ريمو
عقد المجلس الأعلى للحلفاء هذا المؤتمر بين ١٩ و٢٥ أبريل ١٩٢٠ بمدينة سان ريمو بإيطاليا، وكان امتدادًا لمؤتمر لندن فى فبراير ١٩٢٠، وقد أسرع الحلفاء بعقد هذا المؤتمر للمصادقة على معاهدة سيفر عقب إعلان سوريا استقلالها وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين ملكًا عليها فى الثامن من مارس ١٩٢٠، وقد رسمت معاهدة سيفر مستقبل المنطقة العربية على أساس التجزئة والانتداب، طبقًا لمصالح دول الحلفاء دون أن يكون للعرب الذين حاربوا إلى جانبهم أى شأن، وتجدر الإشارة إلى أن هذا المؤتمر قرر أن يدعو مندوبًا عن تركيا ليتسلم نسخة من وثائق معاهدة سيفر وينقلها إلى حكومته لتوافق عليها دون أن يكون لها الحق فى الاعتراض.
ومن الطريف أن لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا وجه فى ١٥ أبريل ١٩٢٠ قبيل المؤتمر، دعوة إلى الأمير فيصل بن الحسين.. لكنها وللأسف وصلت متأخرة جدًا. وتمضى ١٠٠ عام على اتفاقية سايكس – بيكو.. واليوم تعيش الشعوب العربية أسوأ عصورها، والزعم بمحاربة الإرهاب ليس سوى ستار لتنفيذ مخطط دولى رهيب لإعادة – تقسيم المقسـم – بين الولايات المتحدة ونفس القوى التى صاغت سايكس – بيكو الأولى ومعها أطماع تركية وإيرانية وروسية وكيانات عربية مصطنعة تبحث عن دور.. وتتباين المسميات من «الفوضى الخلاقة» إلى «الشرق الأوسط الجديد» بينما يتم تفكيك وتقسيم العراق وسوريا إلى دويلات هشة على أساس عرقى أو مذهبى تحكمها حكومات ضعيفة أو عميلة، وتلاهما اليمن وليبيا وغيرهما، وما يحدث اليوم من إسقاط أنظمة وفناء جيوش ودمار بلاد واقتصاديات قوية وجماعات إرهابية تمرح.. كل ذلك تم التخطيط له فى أروقة استخبارات الغرب والموساد وبتمويل عربى، والثورة العربية الكبرى أو «الخدعة الكبرى» لا تختلف كثيرًا عن «الربيع العربى» وكما قلنا سابقا سيظل العرب مفعولا بهما ولن يكون لهم دور فاعل طالما لم يتعلموا الدرس مما سبق وطالما أكثر يبحث عن مصالحه الفردية دون النظر للصالح العام لمحيطه العربى فالأمن القومى لأى دولة عربية مفهومه يتخطى حدود أى دولة، ويتسع ليشمل الامن القومى للدول العربية مجتمعة، فبرغم أننا كعرب نملك من المقومات المختلفة ما يؤهلنا لنكون فى طليعة الأمم القوية إلا أننا بتفرقنا واستمرارنا على ذلك النهج فلن تقوم لنا قائمة، وما تفعله مصر منذ أكثر من أربعة سنوات ما هو إلا محاولة للم الشمل العربى ومحاولة توحيد مجموعة من الدول العربية على رأى واحد، وتوجه واحد فى محاولة لتقوية الموقف العربى ومقاومة محاولات التقسيم المستمرة، والوقوف فى وجه أطماع الدول الغربية الاستعمارية القديمة، إضافة لمحاولة وقف أطماع تركيا وإيران ومحاولاتهما الدائمة لاستعادة أمجادهما التاريخية على حساب وطننا العربى. أمة اقرأ لا تقرأ، هى حقيقة مُرة للأسف، من الضروري قراءة التاريخ والإطلاع على أحداثه حتى نستطيع التعامل مع الحاضر، ومعرفة ما يتم التخطيط له من أعدائنا، وللأسف أعداء هذه المنطقة يعرفون ويدركون أننا لا نقرأ، لذلك تراهم ينشرون مخططاتهم علنا ويناقشونها فى المحافل المختلفة بدون أدنى خوف أو قلق، فأى هوان وصلنا له الآن؟
أدعو الله العلى القدير أن يهدى أمتنا العربية لتعرف حجم التحديات التى تواجهنا، وأن يتغلبوا على النظرة الضيقة للمصالح الشخصية ويتوحدوا خلف الجهود التى تقوم بها مصر، فهذا هو السبيل الوحيد لتوفير الحماية والأمان لشعوب المنطقة.
حفظ الله مصر وشعبها وجيشها.