القاهرة في العيد تشعرني أن جميع مشاكلي تم حلها؛ الشوارع واسعة وهادئة؛ سيولة مرورية في كل الأماكن؛ جميع الورش ومصانع الحدادة والمشاغل المجاورة لبيتي مغلقة؛ أنام في هدوء تام وأستيقظ منتشيا، أعصر برتقالتين وأشرب عصيرهما بمزاج عال، بعدها أخرج من بيتي أركض في الشارع بقوة تمكنني من الوثب عاليا بقدر يسمح لي أن أقطف أكبر عدد من أوراق شجرة تعيش وتتنفس على بعد خطوات من منزلي؛ لا أحد سيرى "هَبَلِي" أو يعلق عليه وهذا ما يجعلني سعيدا بعيد القاهرة المجيد.
في أول أيام عيد الأضحى المبارك مثلا حدث معي شيء لم يكن ذي بال؛ شئ كان مخفيا تحت ذلك الغطاء السكاني الكثيف للمصريين بالقاهرة؛ فبمجرد أن خرجت من مقر عملي لم التقي بمصري واحد على الإطلاق، ذهبت إلى منزل أصدقاء يمنيين دعوني لتناول وجبة الغداء معهم؛ عندما انتهيت دلفت إلى شارع ميشيل باخوم الدقي أتأمل أشجاره العجوز الضخمة فوجدت خمسة شباب -يبدو من لهجتهم أنهم سودانيون جنوبيون- كانوا يلعبون الكرة الطائرة بزجاجة مياه نصف ممتلئة متذكرين أيام مرحهم في جوبا عاصمتهم الجميلة التي يأمل الجميع أن تستقر الأوضاع بها.
في الأتوبيس وأنا عائد إلى منزلي جلست بجواري مصادفة فتاة من إريتريا سألتني عن بعض المعلومات بشأن مول تجاري تريد الذهاب إليه أجبتها واستمرينا في تجاذب أطراف الحديث كلمتني عن بلدها الساحلية الأنيقة وعن المصالحة الأثيوبية الأخيرة حيث أكدت لي أنها حدث سياسي فريد في تاريخ بلادها، حدثتني أيضا عن عملها في مصر، كنا نسمع بعضنا باهتمام شديد وكأن كل واحد منا يريد أن يعرف كل شئ عن الآخر لولا قصر الطريق.
لما عدت إلى منزلي اكتشفت أن العمارة التي تتواجد بها شقتي أصبحت خالية من جميع سكانها ما عدا جيراني السوريين الذين يقطنون الدور الأول ويعملون في صناعة الملابس وجيراني الألمان الذين يقطنون الدور الثالث ويعملون في تدريس اللغة الألمانية؛ دخلت مكتبي وتناولت ديوانا للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس بترجمة عربية صادرة حديثا عن دار نشر يمنية مقرها بالقاهرة وأثناء انهماكى في القراءة هاتفني صديق عراقي ليدعوني أن أشاركه السهر تلك الليلة، فوافقت وذهبت عنده لأجلس معه طيلة الليلة نعزف على العود ألحانا لناظم الغزالي ومحمد عبد الوهاب ومكثنا سويا ندندها حتى غلبنا النوم.
لماذا لم تصبح القاهرة هكذا دائما؟!؛ التكدس السكاني في هذه المدنية الساحرة والكثافة السكانية المرتفعة في وادي النيل وازدياد معدل المواليد بشكل ثابت في كافة ربوع الجمهورية؛ هذا هو المحور الأساسي لكل مشاكل مصر؛ فعليك أن تتأمل حال المقيمين في القاهرة أيام العيد، فلا يمكنك من استثنائهم من قائمة المواطنين المرفهين؛ وما هي الرفاهية سوى إنتاجية كهرباء تكفي وتفيض وموصلات تنقلك من مكان إلى آخر في أسرع وقت ممكن بهدوء وراحة وطرق نظيفة وأشجار ومساحة هدوء تشعرك بقدسية حياتك الفردية وحريتك الشخصية وبلد تليق بعاصمة تضم كل الجنسيات كأي عاصمة في العالم تنتشر بها دور السينما والمسارح والمقاهي ومدن الألعاب والسفارات والمراكز الدولية والشركات المالتي انترناشونال وغيرها؛ في نظري أن مبادرة "2 كفاية" التي أطلقتها وزارة التضامن الاجتماعي بهدف تخفيض معدل المواليد يجب أن تتبدل من مجرد مبادرة إلى قانون صارم.