أمريكا وفكرة الدولة الكمبيوتر هذا هو مربط الفرس في أزمة الليرة التركية؛ تلك الدولة التي تدير كل برامجها وأنشطتها بـ "بروسيسور" واحد سريع في الاستجابة للأوامر المعطاة ويعمل وفق قوانين شديدة الصرامة لا استهتار فيها؛ عند أمريكا مثلا قوانين مقدسة بالنسبة لحماية اللاجئين على أراضيها؛ فما دام استنجد بها لاجئ وهي وافقت على هذا اللجوء فهو في حمايتها حتى لو انتفض العالم أجمع مطالبا إياها بتسليمه؛ وما دام دستور الولايات المتحدة ينص أيضا على أن أي مواطن أمريكي يتمتع بحماية دولته وهو خارج أراضيها في أي بقعة من بقاع العالم فهذا النص القانوني بمثابة نص مقدس عند الحكومات الأمريكية.
فلنتأمل إذن تلك الافتتاحية الدرامية التي بدأ بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب معركته الاقتصادية مع تركيا؛ فدون أي توقعات بما سيحدث فاجئ الرئيس الأمريكي الجميع بمنشور له على تويتر يتحدث فيه بنبرة لا تتناسب مع رئيس أكبر دولة في العالم؛ نبرة يسيطر عليها شيء من الحنو والاستعطاف كأن أحدا يترجى مالك عقار يستأجره في منحه مهلة ليومين أو ثلاثة حتى يتدبر له إيجار الشقة كونه يمر بظروف مادية تعيسة بعض الشيء؛ هكذا بدا ترامب حينما كتب مستعطفا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيث قال له يا سيد أردوغان أترجاك أن تعفو عن القس برونسون؛ هذا الرجل ليس له ذنب في أي شيء ولا دخل بأي صراع؛ إنه رجل دين طيب ومسالم؛ زوجته وأبناؤه يبكونه في أمريكا ويتشوقون لرؤيته"؛ ولأن أردوغان من المرجح أن يكون قد أصابه مؤخرا داء الحماقة شعر من هذا المنشور الاستعطافي أنه أرطغرل وأن ذلك الترامب والي إمارة تابعة لدولته العثمانية؛ فتجاهل التويتة تماما بتعجرف ليس له إعراب في لغة السياسة العصرية؛ وببرود المتمكنين من عملهم كتم ترامب هذا التجاهل في نفسه وعقد العزم على فعل شيء ما؛ شيء يليق بذاك التجاهل والتعجرف الصبياني.
أغلق ترامب اللاب توب المخزن عليه تويتر وقام بفتح اللاب توب الآخر المخزن عليه الولايات المتحدة الأمريكية بأكملها؛ نعم؛ أنا لا أبالغ في هذا الوصف؛ دولة مساحتها عشرة ملايين كيلو متر مربع يقطنها أكثر من 300 مليون مواطن مخزنة بكل نشاطاتها الديناميكية اليومية وجيشها وشعبها وهيلمانها على جهاز لاب توب صغير؛ فما الذي ظهر بعدما اشتعل ذلك الحاسوب الجهنمي؟!.
فور أن أضاءت الشاشة ضغط ترامب على الأيقونة الخاصة ببرنامج الاقتصاد التركي فظهر له خريطة مفصلة ودقيقة بكل التعاملات اليومية بينها وبين أمريكا؛ على الفور قام بالضغط على أوردر "قرصة الودن" فأظهر له البرنامج علامات زرقاء على صادرات الألمونيوم والصلب التركي مزودة بإشعار يفيد بمضاعفة الجمارك على تلك الصادرات؛ الرجل حرك الماوس تجاه العلامة الزرقاء، فأظهر البرنامج رسالته المعتادة "آر يو شور.. يس أور نو؟؛ بدون تردد نقر الرئيس الأمريكي على "يس"، وفي ظرف ساعات قليلة كانت الليرة التركية تنهار وأردوغان يلف حول نفسه (صدمة التشكيك في أرطغرليته) وأصبح مثل صبي مستهتر ضبطه والده وهو يتسحب إلى المنزل بعد منتصف الليل سكرانا فصفعه على وجهه وطرده إلى خارج المنزل ليذهب من حيث أتى فيسير في الشارع هائما على وجهه يحاول مهاتفة أحد من أفراد شلته التي كانت تسهر وتعربد معه منذ قليل ليستعطف أحد منهم ويقنعه بالسماح له بالبيات في منزلهم فلم يرد أحد عليه ومن يرد يقول له شدة وتزول ويتمنى له السلامة ويعده بالتفكير في حل له دون أي تنفيذ أو مبادرة جادة؛ فيجد أردوغان نفسه في الشارع خائبا تعسا لا يدري إلى أي شطر يولي وجهته؛ يهدد تارة بمقاطعة الأجهزة الإلكترونية الامريكية فلا يستطع تنفيذ القرار بسبب السوق السوداء والاقتصادات الموازية المتفشية في دولته؛ وطورا آخر يهدد بعدم توريد مقاتلات الإف 35 والذي -حسب تصريحات مسئولين بحكومته- سوف يكبد الولايات المتحدة خسائر بقيمة 12 مليار دولار؛ فلماذا لم ينفذه؟ الإجابة بسيطة لأن الخسائر التي ستقع على تركيا من جراء عدم التوريد سيكبد تركيا خسائر أكبر من تلك التي تنتوي تكبيدها لأمريكا؛ فتستنج دول العالم من هذا المشهد الدرامي أن أردوغان بالفعل قد أصيب بداء الحماقة والكذب والتصريحات العنترية الواهية التي لم تهز شعرة في الدولار الأمريكي مقابل الليرة التي تستمر في انهيارها ولا يدري الرئيس التركي ثانية إلى أي شطر يولي وجهته.
ضربة الليرة هذه التي نفذتها أمريكا بمنتهى البساطة بالضغط على مجموعة أزرار، هي في الحقيقة حسبة اقتصادية معقدة للغاية شرحها يحتاج لكتابة مرجع في الاقتصاد؛ فإذا عكسنا هذه القصة على أي دولة متأخرة تعمل بنظام الدوسيهات والأوراق والأجهزة البيروقراطية التي ينهشها الفساد ويسير كل قطاع فيها في طريق عكس الآخر وقرر زعيمها أن يحرر قسا اعتقله أردوغان؛ فماذا سيفعل يا ترى؟!.
سوف يجتمع الزعيم بمستشاريه فيقولون له إن الحل يكمن في محاصرة أردوغان اقتصاديا فيعقد الزعيم العزم على فرض الحصار على تركيا؛ فيرسل خطابا لرئيس وزرائه يطلب خلاله حصرا شاملا ودقيقا بكل التعاملات التركية، فبدوره يرسل رئيس الوزراء خطابا عاجلا للوزراء المختصين بملفات المالية والاستثمار والتجارة والصناعة، لإعداد ذلك الحصر؛ فحتى ينتهي الوزراء من مراجعة هذه الدفاتر والدوسيهات ويرسلوها إلى رئيس الوزراء الذي سيحولها إلى الزعيم الذي سيقرأها أولا ثم يجتمع بلجنة المستشارين مرة أخرى ليحددوا آليات العقاب الاقتصادي وفق مقتضيات هذا التقرير؛ ففي المسافة الزمنية التي تستغرقها آليات تنفيذ هذه المواجهة الاقتصادية لكي توضع وتخطط لها، سيكون القس قد مات في المعتقل بفعل الشيخوخة؛ وهذا بالطبع في حالة لو علمت تلك الدولة التي تعاني من الترهل في إدارتها بأن هناك قسا لها معتقل في تركيا من الأساس؛ وحتى لو علمت احتمال كبير ألا تحرك ساكنا تجاه تحريره؛ والاحتمال الأكبر أن القس لن يعتقل من البداية لأن فتح الله كولن إذا كان لاجئا بأرضها كانت دفعت تركيا نقودا ضئيلة لمجموعة من البلطجية واختطفوه إبان أدائه صلاة العصر في أي مسجد وهربوه إلى تركيا ويا دارا ما دخلك شر؛ فلو كانت حكومات تلك الدول تتابع أزمة الليرة الآن من نفس هذا المنطلق فذلك سيكون مؤشر خير على وجود الأمل في أن تصبح تلك الدول دول كمبيوتر وتحرق أوراقها ودوسيهاتها وتدخل حيز العالم الجديد.