تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أستأنف ما بدأته فى المقالتين السابقتين:
ثالثًا: المقدمة الخمرية فى شعـر أبـى نـواس
كان موضوع الخمر من أهم موضوعات الشعر فى العصر العباسي، وقد يبدو أنه موضوع فردي، ولكن ذلك غير صحيح، فرغم أن من ينظمون فيه كانوا أفرادًا إلا أنهم يعبرون عن طبقة غير قليلة من المجتمع، فقد كان كثير من الناس يذهبون إلى دور أصحاب الحانات للشراب والسماع.
ومما يدل أكبر الدلالة على شيوع شعر الخمريات على الألسنة، أن من تغنَّى به فى العصر العباسي، وهو أبو نواس، أصبح شخصية شعبية تدور على ألسنة الناس منذ عصره إلى اليوم، وهو يُعدُّ أستاذ فن الخمريات، سواء من حيث كمية ما نظم أو من حيث كيفيته، فقد عاش يتغنى بالخمر.
اسمع إليه يقول ـ مصوِّرًا عكوفه على الخمر والسماع صباح مساء:
إنما العيش سماع * * ومُدامٌ ونِدامُ
فإذا فاتك هذا * * فعلى الدنيا سلام
ولذلك مضى أبو نواس يدعو فىخمرياته إلى العدول عن وصف الأطلال، إلى وصف الخمر والمتاع بما يقترن بها من غناء وسُقاة، فهو يرفض فكرة استفتاح القصيدة بالوقوف على الأطلال، ويدعو إلى الحديث عن الخمر بدلًا من ذلك، يقول:
لا تبكِ ليلى ولا تطربْ إلى هند * * واشربْ على الورد من حمراء كالورد
كأْسًا إذا انحدرت فىحلق شاربها * * أجْدَتْه حُمرتها فىالعين والخد
فالخمر ياقوتةٌ والكأس لؤلؤة * * فى كفِّ جارية ممشوقة القد
تُسقيك من يدها خمرًا ومن فمها * * خمرًا فما لك عن سُكرين من بُدِّ
وكثيرًا ما كان يسخر من الشاعر العربى القديم لوقوفه على الأطلال وبكائها، يقول:
قل لمن يبكى على رسمٍ دَرَسْ * * واقفًا ما ضرَّ لو كان جلسْ
اترك الربع وسلمى جانبًا * * واصطبح كَرْخِيَّة مثل القَبَسْ
فالخمر والساقى والذهاب إلى مجالس الندماء بديل عصرى طرحه أبونواس ليحلَّ محل الطلل والرحلة والصحراء:
أحسن من وقفه على طلل * * كأس عقار تجرى على ثمل
يُديرها أحور به هيفٌ * * معتدل الخلق راجح الكفَلِ
ومن هنا يتبيَّن أن دعوة أبى نواس للتقديم بالمقدمة الخمرية، بدلًا من الطللية، كانت نتيجة لانغماسه فىالخمر، بل ولانغماس كثير من أهل عصره، والشاعر إنما يعبِّر عن نفسه وعصره، فلا حياة فى رأيه سوى حياة الخمر والمجون فى بيوت القيان وفىالحانات؛ ولذلك كانت دعوته إلى العدول عن وصف الأطلال إلى وصف الخمر، ومن مقدماته الخمرية:
دعْ عنك لومى فإنَّ اللَّومَ إغراءُ * * وداونى بالتىكانت هى الداء
صفراءُ لا تنزل الأحزانُ ساحتها * * لو مسَّها حجرٌ مسَّتْه سَرَّاء
ولا يفوتنا أيضًا أن نذكر موقف المتنبى من التقليد المأثور فى افتتاح القصيدة، إذ انتقده فى بيته المشهور:
إذا كان مدح فالنسيب المقدّم * * أَكُلُّ فصيح قال شعرًا متيّم؟!
وكان المتنبى صادقًا مع نفسه، إذ لم يتحرَّ فى قصائده أن يبدأها بالنسيب، كما كان التقليد بين الشعراء.
فىالمقال التالى سوف أختتم هذه السلسلة بتناول مسألة المعاناة الإبداعية فىالشعر الحديث بوصفها بديلًا عن المقدمة الطللية عند الشاعر الجاهلي.