لعل ما يشغلنا الآن كأفراد ودولة هو كيفية التصدى للشائعات. إلى أى مدى يمكن أن نصدق أو نكذب وأى مقياس نحتكم إليه هل القلب؟ أم العقل؟ أم العيون التى تتابع شاشات التشكيك بأصواتها المنادية بهدمنا وهزيمتنا معنويًا. أى طريق يمكن للشباب أن يلجأوا إليه؟ والأمر لا يتوقف عند الشاشات، بل يتعداه إلى وسائل التواصل الاجتماعى التى تقذف بالشائعة كطلقة لا ترد أو كقنبلة عنقودية من أخبار مزيفة نساهم نحن أيضًا فى نشرها حينما نناقشها على صفحاتنا. لا أتحدث هنا عن المشاعر السلبية والآراء الهدامة التى يتم تداولها من المغرضين، إنما أتحدث عن المشاعر الإيجابية التى تولد من رحم انتماء المحبين وخوفهم على بلدهم وحلمهم بأن تكون أفضل وأكثر جمالاً. كيف يمكن لشبابنا التصدى فى ظل خبرتهم القليلة بمعترك الحياة، وخبرتهم الأقل بقوانين الحروب النفسية ذات النفس الطويل؟ من أين لهم بها؟ من أين لهم بقصص حروبنا هزيمتنا وانتصارنا والدروس التى تعلمناها والدماء التى رسمت طريق النور والسيدات اللواتى استقبلن أبناءهن الملفوفين فى أعلام الشهادة بالزغاريد منذ ٦٧ وحتى ٧٣. كيف كان أخوالنا وأعمامنا يقضون فى الجيش سنوات وسنوات كيف كان اقتصادنا كيف كنا نأكل كيف كنا نذهب إلى أعمالنا. لماذا لم تقدم إليهم القصص التى تعزز البطولة وتحتفى بالنماذج المصرية البسيطة فى شجاعتها والمتواضعة رغم بطولتها. والتى تشبههم وتشبه آباءهم، فتستقر فى وجدانهم وتقوى عزيمتهم وحبهم لوطنهم وتحملهم الصعاب من أجله حتى نستطيع أن نمر من منعطفات مفخخة قد تهدمه، إذا لم نتماسك جيدًا ونشكل حائطًا صلدًا يستعصى على الخدش. لعل ما يجب فعله الآن وبشكل مُلحٍ هو استثارة الروح الوطنية عبر استضافة البرامج للأبطال من بسطاء الشعب من كل مكان فى مصر. أو سرد قصصهم التى تكشف عن جوهر المصرى الحقيقى دونما تقعر أو تعالٍ. وعقد لقاءات حية فى الجامعات والمدارس لتعزز التواصل بين الأجيال وتناقش البطولات مباشرة مع من قاموا بها أو شاركوا فيها. والاهتمام أيضًا بأدب الحرب الذى يعد جزءًا مهمًا من آليات التصدى لما له من دور مهم فى تشكيل الوجدان.
وهنا اسمحوا لى أن أوجه التحية إلى الدكتورة جمال حسان التى رغم إقامتها فى لندن لا تتوانى عن الحفر فى تاريخ مصر بتؤدة استشارية نفسية وعين أديبة واعية تجيد وضع الأمور فى نصابها وتكتب ما تكتبه بحبر العشق ومصداقية الأمومة التى تنأى عن الظن لأنها تعتمد على الوثائق التى تغزلها فى قالب حكائي، يتلاءم مع المواقف والشخصيات. فنرى رواياتها مرآة ينعكس عليها التاريخ لحما ودما. نتعرف المؤامرات الدولية التى حيكت وكيف تعامل المصريون معها. فى رواية (بور فؤاد١٩٧٣) التى ناقشت فيها حرب الاستنزاف واستراتيجية السادات فى التعامل مع العدو خلال السنوات الست والتى شبهتها بما نعيشه منذ سنوات وما يجرى من مؤامرات دولية ضد مصر والذى يعد استنزافًا حقيقيًا، فتصير الرواية بذلك، تحفيزًا للأجيال القادمة ضد الأفكار الظلامية. وفى روايتها (الطريق إلى بودابست) تسجل وقائع حقيقية لسريتين من قوات الصاعقة المصرية توجهوا لمهاجمة حصن بودابست (أحد حصون خط بارليف) خلال حرب أكتوبر ١٩٧٣وكان أخوها قائدا لإحداهما. وأيضا روايتها (وقائع سنوات الجمر) من شدوان إلى بورتوفيق وغيرها من القصص القصيرة التى تعرج فيها على حروب المنطقة مثل سوريا وغيرها مثل حال الرجال وناى سيقان.
إن هذا الكنز الإنسانى جدير بالاهتمام إذ يعد تشخيصًا ووقاية وعلاجًا حتى أننى أتساءل، أين الإنتاج التليفزيونى والسينمائى من هذه الأعمال إذا كنا نتحدث عن القوى الناعمة؟ إذا كنا جادين فعلاً فى البحث عن حلول؟ إننى أرشحها وبقوة لرئيس الجمهورية ولإدارة الشئون المعنوية ذاتها لإنتاجها فى أفلام سينمائية، إنتاجًا ضخمًا وعالميًا. وأطالب باللقاءات المفتوحة فى الجامعات بدعم من وزير التعليم العالى وأطالب بعمل مسابقات أدبية وفنية فى المدارس تعزز الانتماء وتشجع البطولة. أطالب بأغانٍ للصغار فى الحضانات بدعم وزير التربية والتعليم كل ذلك فى حب مصر؟ ما الذى يمنعنا أن نتحد على هدف واحد؟
أعلم أن المشهد مربك ومرتبك وأن الأحداث تتسارع فى ظل اقتصاد حرب لكنى أعتبر ذلك أمنًا وطنيًا ومطلبًا عاجلاً يساهم فى دعم هويتنا ومؤازرة الدولة وتعميق الشعور الوطنى الذى يُعد سلاحًا رادعًا إن أتقنا تجهيزه لن يستطيع أحد هزيمتنا مهما أوتى من أبواق وأسلحة.