"لا تتعجب إن كنت أكتب لك حدوتة كل يوم، أو موضوعا كل ساعة، فأنا لا أجيد شيئا في الحياة سوى الكتابة، أكتب وأنثر أوراقي في الطرقات، أكتب وأدس ما أكتبه تحت "السرير" أو على الأرفف، أكتب وأكتب يا صديقي، لأنني لو توقفت عن الكتابة سأموت، أتدري يا صديقي أنني أكتب وأعرف أن هذا الزمان لا يقرأ ولا ينٌصت؟، أتدري أنني أكتب وربما كُثُر ممن حولي لا يفهمون ما أكتبه ولماذ أكتبه؟ حتى أنا في أحيان كثيرة أكتب وكأني أُقيم حجة على نفسي، أكتٌب برغم أني أعرف أن تلك البضاعة لم تعد رائجة، لكن شئ ما يدفعني لأن أتمسك بالأمل، شيء ما بداخلي يحدثني بأن الزمان سيجلس يوما ما منصتا ومنصفا لي، شيء ما يقول لي ما تنثره من حروف سوف يُثمر، ومع ذلك الآخر بداخلي يغلبني أحيانا ويقولي لي: "دعك من كل هذا الضجيج ولا تخض معهم في زيف أنت تعرف أنه لن يجد نفعا، التاريخ وضع قلمه عنا، ما كتبه كتبه، لنكتفي بهذا القدر".
بالأمس اصطحبني هذا الآخر بداخلي لزيارة والدنا في المقابر، هو عرض عليّ ذلك لكني كنت أعرف أن له هدف آخر، فهذا الآخر لا يفعل شيئا معي بوازع الخير، جلست أمام قبر والدي وجلس هو في رأسي وبدأ في طرح الأسئلة لماذا نعيش ولماذا نموت وما جدوى الحياة؟ لما قتل النفس خطيئة ولما الانتحار كفر؟ أناس جاءت وذهبت دون أثر لم يتبق منهم سوى صور معلقة على الجدران، صراعات دامت لعقود من أجل إرث وكلهم تركوا الإرث وماتوا وما تبقى من الإرث سوى إرث من العداوة لأجيال لم تولد بعد.. إذا كان ليس بيننا نبي فمن سيجمع الشتات ويطفئ النار ويوقظ المشاعر.. الحب والرأفة والتواد والتراحم أساطير تجدها في الكتب، انتصار الخير في النهاية لم نجده غير في فيلم أبيض وأسود بعدما نضني أنفسنا بحثا عنه بين مئات القنوات التي تتنوع في عرضها بين قتل ودمار وحروب.. لا إجابة.. لا صوت.. يكرر أسئلته.. ويصرخ في أذني..
يطل أحدهم برأسه من مقبرة على يساري: «دهية تقل راحتك يا بعيد، فيه إيه ياله، اقرا الفاتحة يا حمار وامشي، ولا امشي مش عايزين منك فاتحة».
أسمع ضحك صديقي الذي مات شاب من داخل مقبرته وهو يقول: «الحمد لله إني خدتها من قصيرها، كان زماني اتجننت دلوقتي زيك، ده ممكن تكون الدفعة بتاعتي كلها اتجننت يا رب ارحمهم، ثم علا صوته وهو يدعوا من معه لقراءة الفاتحة لنا».
صوت دافئ آتاني من إحدى المقابر لماذا تجهد نفسك؟ عش كما يعيش غيرك.. تمتع ولو بالقليل.. واشكر الله على ما منحك من نعم.. الرحلة قصيرة ولو رأيت ما رأينا لضحكت على هذا الصراع الزائف في الخارج.. كانت نفسي قد استعذبت حديث الصوت هذا، وهمهمت بالحمد غير أن ذلك الآخر صرخ فجأة قائلا: "أتمتع؟ فلتعطني دليلا لشخص واحد يتمتع بالحياة، ومن فضلك، بعيدا عن الشعارات، لماذا تصمت؟.. أجيبك أنا لأن من يفهم يعاني.. فالحياة الآن اختلف تعريفها واختلفت عما جئنا إليها من أجله، الحياة الآن طفل ينجب من رحم يطعم من نهد منتفخ من حقد يشتد العود ما بين رحايا خلاف الأهل وحرب الدول وقتل الابن وهتك العرض وشذوذ وسحاق ولواط وتناحر أحزاب وحكومات وبعد هذا نطلب منه أن يكون ابن الخطاب، أيعقــــــــــل هذا؟
إننا كل لحظة ننجب محمد وعيسى وموسى والعذراء ونعلمهم أن يكونوا كفرة وجاحدين بكل ما جاء به الأنبياء، وبعد هذا كله إذا ما انتحرنا كفرنا وإذا ما قتلناهم كفرنا وإذا صمتنا مرضنا.. أليست تلك هي الحياة؟ الحياة هي أن يتعارف الناس ويتحاوروا، وهل يجدي أي حوار. وإذا كان يجد فلم لم يجد مع اليهود والأمريكان؟، بل لما لم يجد القول اللين من موسى لفرعون ومن محمد لأبو جهل ومن لوط لابنه؟ نحن لم نعي الدرس جيدا.. والآن نطلب أن نتحاور، لن يجدي الحوار وأنت ضعيف، لذا لم يجد مع سائق الميكروباص والمدرس وضابط الشرطة ولا الموظف ولا أي مسئول،
وهناك احتد الصوت الدافئ وأشار لي أنت يا هذا لا تدع هذا الآخر يتملك منك.. أنت في اختبار وامتحان وبلاء.. وما دٌمت كُلفت بأمر فأنت أهلا له.. اصبر.. واصبر.. واصبر.. واصبر وتمسك بالأمل.. وتذكر دائما إن مع العسر يسر.. وأن الله ما خلقنا ليُضيعنا.. وما خلقنا ليٌهيننا.. إنما جعل بعد الظلام نور ليسمع منا الحمد.. وجعل بعد الضيق فرج ليرى على وجوهنا الرضا.. فكن دائما كما يٌحب أن يراك الله.
ثم قال: "بلغ سلامي لأموات على وجه الأرض.. وأخبرهم أن هناك فرصا للحياة فليغتنموها".