بعدما تحدثنا الأسبوع الماضى عن لورانس العرب والحاج فيلبى والدور الذى قاما به فى الشرق العربى، وكيف كانا يسييران الأمور كما يحلو لهما بدون أى معوقات أو معارضة من القائمين على شئون العرب وقتها فإننا نستهل حديثنا اليوم عن واقعة غريبة أشار إليها فيلبى فى أحداث مايو ١٩١٦ - الشهر الذى وقعت فيه اتفاقية سايكس - بيكو - بشأن التحرك الروسى فى العراق وجزيرة العرب، فكتب «حدث فى مايو - بالمصادفة - أن مجموعة صغيرة من الضباط الروس حضروا عبر بلاد فارس لإجراء اتصالات رسمية مع قواتنا فى قطاع الكوت، ثم جاءوا لزيارة البصرة وتم الترحيب بهم بحرارة أثناء إقامتهم وأعد لهم مطعم القسم السياسى حفلة عشاء كبيرة، قدم لهم فيها المأكولات والمشروبات الروسية احتفالًا بهذه المناسبة الفريدة! ولقد كان غريبًا بالنسبة لأولئك الرجال الذين قاموا بتلك المسيرة الشاقة عبر جبل فارس، أن يحضروا حفل عشاء فى البصرة وهم يرتدون زيهم القوقازى الكامل، وكان هناك اثنان من ضباط استخباراتنا يتحدثون الروسية بطلاقة، ولذا فقد استمر المرح الصاخب إلى ساعة متأخرة من الليل».
وكذلك تحدث عن الطيار الروسى «شيريكوف» الذى رأى أنه شخصية غريبة وسكير حيث كان يعمل فى جدة لصالح الهاشميين، فكتب «أكد لى شيريكوف أن معظم الرسميين فى جده يريدون تعيينه رئيسًا للأركان، واستعدادًا منه لتسلم هذا المنصب كان يعد خطه لجلب نحو أربعين روسيًا لقيادة الطائرات والدبابات التى كان يتم إصلاحها فى جدة بغرض تدمير السعوديين وطردهم من جدة، وبعد أن وصلت الطائرات قمت بزيارة أماكنها لمشاهدتها، وهناك عرض أن يوصلنى بسيارته للقاء القنصل الروسى «كريم خان حيمكوف».. كان شيريكوف يتقاضى راتبًا شهريًا بلغ ستين جنيهًا استرلينيًا إضافة إلى خمسة جنيهات عند كل رحلة بالطائرة إلى جانب السكن المجانى والوجبات اليومية التى كانت تشمل زجاجة ويسكى يوميًا يتقاسمها مع الميكانيكيين الروس!
تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد السوفيتى كان أول دولة تعترف بالمملكة السعودية - كما كانوا أول من اعترف بدولة إسرائيل - وأول دولة ترفع تمثيلها فى جدة بعد أربع سنوات من القنصلية إلى المفوضية ليصبح «حيمكوف» أول وزير مفوض فى السعودية، وبالتالى أصبح عميدًا للسلك الدبلوماسى!
وكانت الإشارة الوحيدة فى كل مؤلفات فيلبى عن اتفاقية سايكس - بيكو تلك التى كتبها فى: أيام عربية ص ٢٠٦ «وضعت معاهدة سايكس - بيكو فى عام ١٩١٦ التى ما زالت سرية صورة كاملة لتقسيم الأراضى العربية التابعة لتركيا بين إنجلترا وفرنسا، ولقد حازت الأخيرة على محافظة الموصل، بينما احتفظنا نحن ببغداد والبصرة.. وبدأ مواطنو بغداد المحبين للحرية يقولون إنه عندما يأتى دورهم فإنهم أيضًا لن يفوا بوعود تصدر عنهم تحت ضغط الحروب، ولهذا فإن الحاجة قد أصبحت ماسة لوجود صحيفة دعائية وبدأنا فى إحياء مشروع صحيفة العرب»!
وأشار فيلبى إلى أن الأوراق التى قدمها إلى برسى كوكس المعتمد البريطانى فى بغداد ومكتوب عليها «عاجل جدًا» و«سرى» جعلت كوكس «راضيًا تمامًا عن النتائج التى تم تحقيقها»!
فى هذه الفترة نجح الوهابيون فى اجتياح الحجاز بكامله وضمه إلى نجد ولقب عبد العزيز بـ«سلطان نجد والحجاز» واقتنع تشرشل بوجهة نظر فيلبى بأن «عبدالعزيز هو رجل جزيرة العرب»، وفى حماية البريطانيين تم نقل الشريف حسين وأسرته إلى قبرص وعاش بها حتى عام ١٩٣٠، وعندما اشتد عليه المرض نقل إلى عمان وتوفى عام ١٩٣١ وعمل البريطانيون بقوة لتحجيم طموحات الوهابيين «حتى لا تصطدم بخطط ومشاريع المكتب العربى» فكان لزاما أن يتم إيجاد دور للعدو اللدود للوهابيين وآل سعود حتى تظل هناك كفة ميزان على الجهة الأخرى لهم فيظلوا دائمًا فى سعى للحصول على ود البريطانيين وبعد بحث توصل المكتب العربى إلى فكرة تخصيص إمارة جديدة للهاشميين باقتطاع جزء تابع لفلسطين عام ١٩١٩ أطلق عليه «إمارة شرق الأردن» وتنصيب عبدالله بن الحسين بن على أميرًا عليها، وتنصيب فيصل بن الحسين على سوريا ثم العراق.. تبنى الإنجليز إنشاء هذه الإمارة لخدمة أهدافهم السياسية، بينما رأى العرب أنها ستكون منطلق الثورة لتحرير الوطن العربى وإرغام بريطانيا وفرنسا على احترام العهود التى قطعوها على أنفسهم.. وتغلب دهاء الساسة البريطانيين وأدواتهم فى المنطقة على سذاجة الزعماء العرب، فتقلصت أحلام الأمير عبدالله وقبل بإمارة فى هذه البقعة من الأرض، وانتدب لورانس للعمل مؤقتًا كمعتمد سياسى بريطانى فى إمارة شرق الأردن، ثم خلفه فيلبى حليف ابن سعود وعدو عبدالله بن الحسين!
عدد كبير من الرحلات والجولات طاف فيها فيلبى ولورانس ما بين بلاد الرافدين وإمارة شرق الأردن وفلسطين وتركيا فى جو من المؤامرات والدسائس، فقد ارتبطا باليد الخفية ليقوما بأدوار البطولة فى هدم الممالك وإقامة الأخرى واللعب بمقدرات الشعوب!
وكم كان محقًا «الحاج فيلبى» عندما كتب فى لحظة صدق: «لم أر ضرورة للتدخل فى التطور الطبيعى للمسرحية، ولكن نهاية المسرحية كانت من نوع آخر لم يتوقعه أحد من المسئولين البريطانيين: فقد انتهى عصر الخلافة الإسلامية بعد أن أعلن مصطفى كمال إلغاءها»!!
فهل أدركنا حجم أقذر عملية غسل دماغ عرفها تاريخ الإنسانية، وهل عرفنا الفرق بين «الثورة الكبرى» و«الخديعة الكبرى» ومن كان المجرم.. ومن كان الضحية.. فعلا.. ما أشبه اليوم بالبارحة.
فى كتاب «التجربة والخطأ» تحدث حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية عن لقائه بونستون تشرشل وفى حضور لورانس وفيلبى.. قال له تشرشل: «أريد منك أن تعرف أننى قد أعددت ترتيبًا خاصًا، فأنا أريد أن أجعل من ابن سعود سيد الشرق الأوسط كله ورئيس الرؤساء بشرط واحد وهو أن يجرى تسوية معكم»، وعقب رفض السوريين لجلوس الأمير فيصل على عرش سوريا، وفشل المخطط البريطانى، سارع تشرشل ومعه فيلبى ولورانس إلى تهيئة فرصة جديدة لفيصل فى العراق عقب لقائهما فى يونيو ١٩١٨ والتفاهم الذى تحقق بينهما على إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين!
بالفعل الأمر تخطى مرحلة العبث السياسى، أن يتم التعامل مع الشعوب العربية وحكامها بمنطق الشطرنج، والأمر ليس ببعيد عما يحدث فى وقتنا الحاضر فمنذ غزو العراق وإسقاط الرئيس العراقى الراحل صدام حسين وإعدامه صبيحة عيد الأضحى وصولا إلى ذروة الأحداث بدءًا من تونس فى ديسمبر ٢٠١٠ تلاها مصر فى يناير ٢٠١١ ثم باقى الدول العربية ليبيا وسوريا واليمن بعض المناوشات على فترات متقطعة مع السودان والبحرين، نجد أن السياسة واحدة والسير على المخطط ثابت وممنهج منذ قرن مضى، والطريف والمحزن فى ذات الوقت أن القاسم المشترك فى الحالتين هو سذاجة العرب سواء حكام أو محكومين فبرغم عدم حدوث تجديد فى الاستراتيجية العامة للغرب تجاه بلداننا العربية إلا أننا نجد العرب يقعون فى نفس الأخطاء إن لم نقل الخطايا ويتم اللعب بهم بكل سلاسة.
ولنا لقاء قادم فى الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة إن كان فى العمر بقية.