اختلفت الأقاويل في أسبقية من عرف «السجائر» فرجح البعض أن «الهنود الحمر» أول من اكتشف «التدخين» وعرفت فيما بعد أن أول رجل أقدم على التدخين فرنسي اسمه «جان نيكوت»، لكني ظللت لسنوات أظن أن صديقي «رضا» صاحب براءة الاختراع، وذلك لأنه من صنع سيجارة كاملة أمامي من «شوش الذرة».
صديقي «رضا» هذا قبل أن أبدأ حدوتي، لم يكن طفلا متهورا فاسدا لكن برغم ضراوة الحياة كان عذب النفس صافي الروح، متاعه في الدنيا «راديو بحجاير» تطل منه «فايزة أحمد» برائعتها رسالة من امرأة، لحن محمد سلطان، وكلمات «نزار قباني»:«لا تدخلي.. لا.. وسددت في وجهي الطريق بمرفقيك وزعمت لي.. أن الرفاق أتوا إليك أهُمُ الرفاق أتوا إليك؟»، و«نجاة تدخل إلى قلوبنا من شباك الروح، وأم كلثوم ونحن نفسر قصائد غنتها لبعضنا البعض، ذلك الراديو الصغير هذب شيئا ما بداخلنا، علمنا الأحاسيس والمشاعر، فتح أمامنا سموات الخيال، ونحن نشدو مع «عبد الحليم» لجزيرة أبعد من الخيال لا شافتها عين ولا خطرت ببال.. يا حبيبي وصلنا فوق فوق.. بر الأمان، لكن شئ ما غافلنا، لا أدري هل كبرنا فجأة، أم نفذت بطاريات الإبداع، والتهمت متطلبات الحياة صفاءنا النفسي، صديقي كغيره من شباب كثر لفظهم الفقر على شواطئ الحيرة، الانفتاح.. جعلها سداح مداح.. تغيرت بنايات القرية من الطوب اللبن إلى «المسلح»، وظهرت سجائر جديدة «غير شوش الذرة» لم يكن هناك وقتا للحب والتأمل و تناحرات الحياة تزداد، غرقت مصر في «الفكاكة والفهلوة»، أناس صعدوا وآخرين ظلوا مع «الراديو أبو حجاير»، طبقة وسطى تهاوت، وفلاحون طلقوا أرضهم طلاق بائن وهرعوا بعيدا عن الفأس و«القاصعة» إلى حيث العمارات تحل محل الخيام، كان من يسافر يعود بجلباب أبيض وتسجيل كبير ومجموعة من الشرائط، المتعة أيام والمقابل كان عذاب لسنوات، ثم ما يلبث صاحبنا هذا إلا أن يبيع تسجليه وشرائطه ويلملم ضحكته من كل المجالس التي سهر فيها، ويضعها في «رف التمني» فلربما يعود إليها، وأنا أتأمل ما يجري وما جرى أدرك تماما أن هذا الشعب لم يذق يوما طعم الراحة، لم يرى قط نورا، حتى ما نهلل ونغني له كانت شهبا تساقطت، لحظات السعادة والرضا تلك التي نلوكها مجرد خدع بصرية وسمعية روجوها لنا.
شغلني «رضا» حين اتصل بي وأنا أكتب المقال.. وتفاجأت بأن قلمي يجرني نحوه.. ونحو أيامنا الخوالي.. فلتسامحوني أنتم وحسين، الذي سأتخلص منه قريبا.. أعدكم بذلك.
عدت أنا وحسين للمنزل، وهناك عرفنا أن الشرطة قبضت على بعض زملائنا في القرية، الجميع كان يردد «أمن دولة».. وأقسم لكم أنه ربما حينها لم يكن أحد يعرف معنى الكلمة سوى 5 أشخاص فقط، فوزير الداخلية لدينا كان شيخ الخفر، ورئيس الجمهورية كان العمدة، وذلك «الصول» الذي كان يأتي على حصان من النقطة كل حين، وكنا نظنه أحمد عرابي، هو كان كذلك فمن ذا الذي يعتلي «صهوة جواد» غير بطل، هذا قبل أن نبيع «شنكل» في «مولد يا دنيا»، ونكتفي بما لدينا من «حمير».
رحل رجال الشرطة من القرية ولم يأخذوا معهم «الخوف» الذي جاءوا به تركوه كصبي متهور يجري في شوارع القرية يقذف البيوت بـ«حصى»الهلع والذعر، فيطير النوم.. حينها آمنت أن الخوف كالجوع، وأن الكلام يخدر لا يطمئن، تلاصقت الاجساد حول «رواك النار».. كل أب خاف على ابنه بطريقته، فعم «السيد» عنف ابنه «أحمد»، وقال له: «إياك أن تذهب للمسجد مرة أخرى»، وعم «عبد العظيم» أقسم مائة يمين أن يزيل علامة الصلاة من على جبين «إسماعين» ولو بماء النار، وعمي «عبد الحليم» أشعل النار في الجلباب والسروال، وعمي «عبد الحي»، لطخ جاسر بالطين وحكم عليه أن يمشي وراء الغنم بـ«اللباس» فقط، لم يكن لأولياء أمور تربوا على الخزعبلات، أن يفكروا في الباب الخلفي الذي جاء منه هؤلاء وغيرهم برغم أن «أقفيتنا» في كل مرة تصرخ لنرحمها.. حتى الفطين فيهم، والذي كان موظفا وهو والد حسين قاله له: «أنا هشيل عنك التهمة دي خالص، خد هات علبة سجاير، ولما جابها حسين أشعل والده سيجارة وقاله: «شد نفس، إزاي يا أبا هشرب سجاير، مش أحسن ما نشرب إحنا نارك، وسيجارة وراء سيجارة.. حتى بات حسين أشهر تاجر مخدرات».
كل تلك الأفعال وكأنه لم يكن هناك سبيلا للمسجد إلا عن طريق الجماعات الإسلامية.. ربما لأننا ولدنا في فترة كان التناحر على أشده وكان المتأسلمين يدقون أقدامهم في كل شبر.. لا أبي ولا أبو حسين فهما ذلك.. لكنا بعد مرارة اخترنا طريقنا بعيدا عن التناحرات.. عرفنا الدين بعيدا عن الشكليات والمظاهر.. عرفنا الخير الحقيقي.. عرفنا أن آفة الخراب هي تصنيف الإنسان طبقا لمعتقده.. لكن للأسف إذا كنت أنا نجوت فصديقي صاحب سيجارة شوش الذرة سقط.. وللحديث بقية.